يقول المخرج السينمائي الفلسطيني محمد أبو صبيح إن السينما بحد ذاتها فكرة معذبة، فكيف يمكنها أن تقدم للفلسطيني المقيم تحت سلطة احتلال إسرائيلي غاشم ما هو مطلوب منها، وتظل كذلك تحفظ جوهرها في تقديم ما هو إنساني، و تعد بتقديم الأفضل في تصوراتها وحلولها لحياة شعب مازال يجترح المعجزات للبقاء على أرضه؟ أبو صبيح، الذي وجد نفسه بعد الانتهاء من الثانوية العامة دارساً للإدارة العامة والتسويق في جامعة بيت لحم مدة سنتين بسبب «تأخر الجامعة الألمانية التي كنت أنوي دراسة الإخراج السينمائي فيها بالرد على طلب قبولي في صفوفها». ولكن ما إن جاء الرد بالقبول بعد فترة انتظار معذبة حتى توقف عن دراسته القسرية، وطار الى ألمانيا ليحقق حلمه بدراسة السينما هناك. اصطدام اصطدم الحالم السينمائي الشاب بالوضع المادي الصعب الذي تتطلبه «دراسة السينما في بلاد رينر فاسبندر وفيم فيندرز، «فما كان مني إلا أن حزمت حقائبي وقررت العودة إلى فلسطين بعد ثلاثة شهور تقريباً، لأني لم أشأ أن أحمّل عائلتي متاعب وهموماً إضافية، فوق الهموم التي يحملونها». شاءت الأقدار أن يتعرف محمد أبو صبيح «في البلاد» على كلية جديدة تدرس السينما والمسرح. في «دار الكلمة درست السينما والمونتاج مدة عامين، وعملت في هذه الأثناء في المسرح والإذاعة وأنجزت فيلمين وثائقيين قصيرين: «برك الموت» و «عرب الرشايدة». الأول يحكي قصة طفلين صغيرين ماتا غرقاً في هذه البرك، والثاني يحكي عن عشيرة الرشايدة التي انتقلت من حياة البداوة الى حياة المدينة وتأثيرات ذلك عليها في ظل الاحتلال الإسرائيلي». الفيلم الأخير الذي أنجزه محمد أبو صبيح في فلسطين قبل أن يغادرها الى الدنمارك ومنها الى السويد كان وثائقياً بعنوان «تحت الأكوام». حاول أبو صبيح من خلال هذا الفيلم أن يصور حياة الفلسطينيين عموماً عبر حكاية شابين يعملان في جمع الخردوات وبيعها بقروش قليلة لا تكاد تكفي سد الرمق ومواصلة العيش في ظل مكونات القهر التي يواصل الاحتلال فرضها عليهم. تبدو الصورة التي ينقلها المخرج في هذا الفيلم قاتمة للغاية، إذ لا يبدو أن هناك مَخرجاً من تحت هذه الأنقاض الهائلة من المعادن والحديد التي يتعامل معها الشابان، وأن كل ما في وسعهما القيام به هو مواصلة التحدي، والالتفاف ما أمكنهما على هذه الأطنان المرمية واستخراج ما يمكن استخراجه منها لمواصلة الحياة والتعلم والعيش بكرامة. في قرية أذنة الواقعة قرب مدينة الخليل، يتعلم محمد أبو صبيح كيف يعيد ترتيب الواقع الفلسطيني «المهمل» تحت الأسلاك النحاسية والحديد والمعادن، ويصنع منها فيلماً متقناً. يبدو الخروج الوحيد من تحت هذه الأنقاض هو في مراوغتها بصرياً، كما أفلح في ذلك عبر تركيب المونتاج الحركي واستخلاص العبر من حياة هذين الشابين الفلسطينيين المثابرين في الليل وفي النهار: الأول الذي استسلم للعمل حتى يعيل عائلته، والثاني الذي يعمل نهاراً ويدرس ليلاً. الفيلم الذي يحزن محمد أبو صبيح لأنه لم يتمكن من إكماله جاء من طريق مغامرة غير محسوبة تجلت في ذهابه مع عدة التصوير الى مدينة القدس الممنوع من الانتقال إليها. فيلم «إلى متى» يحكي قصة عائلتين فلسطينيتين تم طردهما من القدس الغربية بدعوى أنهما لا تملكان عقود استملاك للمنازل التي تقطنان فيها، التي جرى منحها لعوائل مستوطنين. كان أبو صبيح يدرك أن في الأمر مخاطرة قد تكلفه كثيراً. «وصلت من طريق التهريب الى مكان الحدث ومعي معداتي الشخصية، وصورت يوماً كاملاً بمساعدة صديق لي. واضطررت للمغادرة تهريباً بالطريقة ذاتها التي قدمت فيها. لم أشعر حتى اللحظة أن ما صورته كان كافياً، بسبب ضيق الوقت وتعذر العمل في ظل هذه الظروف، لكني قد أعود يوماً إلى المادة المصورة وأكتشف أيضاً ما الذي حل بهاتين العائلتين بعد مضي كل هذا الوقت على طردهما من بيوتهما». سينما للآخرين لم يتوقف محمد أبو صبيح عن مد يد العون لأفلام الآخرين، فقد عمل مصوراً ومونتيراً في أفلام أصدقاء له. «يمكن القول إن هذه النتاجات الفنية غير المكلفة كانت تشكل لي حافزاً على مواصلة الحياة عبر السينما. ما ينقصنا، نحن الفلسطينيين، هو اللعب على فانتازيا هذا الواقع اللئيم، وإعادة إنتاجه كما نشتهي. لهذا لا أتوقف عن مساعدة زملائي كمصور ومونتير. حتى أنني أقدم صوتي الإذاعي للكثير من الومضات التي يقوم بها أصدقائي، وأصدقاء أصدقائي». في الدنمارك سيجد محمد أبو صبيح نفسه في عالم مختلف. هنا سيدرس من طريق منحة التبادل الدراسي، التي «حصلت عليها لتفوقي في دراسة الأفلام»، الغناء والتمثيل والفلسفة وعلم الأديان والإعلام. «نعم، قدمت لي هذه الفترة القصيرة الكثير في طريق بناء المعرفة التي أبحث عنها، ولكن كان يجب أن أمضي في طريق الانعطافة التالية، لأحقق حلمي السينمائي كما أريد وأشتهي. أنا الآن في مملكة السويد». عمل أبو صبيح هنا على أفلام وثائقية كثيرة، بعضها يمضي في اتجاه التأكيد على الاندماج السريع والسلس في بلاد إنغمار برغمان، وبعضها الآخر لا يزال ينمو بداخله عن مكان العيش الأول. «صورت أفلاماً للآخرين. مثلت في بعض هذه الأفلام الأدوار الرئيسة. لا أتوقف عن التطلع باتجاه فلسطين، وأحلم بأن أعود ومعي عدتي الشخصية لأصور هذه الفانتازيا التي نعيشها في ظل هذا الاحتلال». محمد أبو صبيح حظي بعقد عمل أخيراً في المحطة السويدية الإخبارية الحكومية بوصفه مراسلاً ميدانياً: «نعم، أنا أصور وأنقل الأحداث من أمكنتها التي تدور فيها وأعيد توليفها وإرسالها للمحطة، وآمل أن يتجدد عقدي مع هذه المحطة الذي ينتهي بعد ثلاثة شهور». لا ينسى محمد أبو صبيح تجربته مع الشبكة الإعلامية العربية في السويد «الكومبس»، فبالاضافة لإعداد البرامج والتصوير والمونتاج وبثها عبر الإنترنت، «عملت مذيعاً ومقدم نشرات أخبار وبرامج منوعة مثل برنامج «سحر الكلام»، وهو برنامج اجتماعي عن العلاقات العاطفية والأسرية التي تشغل الجاليات العربية في مملكة السويد». في هذه الأثناء سيواصل المخرج الفلسطيني الشاب تحدياته. أمامه فيلم سويدي للعمل فيه ممثلاً. «أحتاج للغة السويدية في هذا التحدي الكبير، وآمل أن أتمكن منها جيداً قبل أن أتقلد موقع ماكس فون سيدوف في هذه المهنة الخطيرة».
مشاركة :