عندما أطلق الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي مقولته الشهيرة عن شبه الدولة، استدعت الكلمات عندي بالقياس صورة «شبه العالم» الذي نعيشه، أكثر مما استدعت مدى دقة المصطلح وعلميته واحتمالات قبوله من عدمه كمصطلح رئاسي يمكن تنزيله على واقع الحال في بلادنا في ضوء الأدبيات التي أسَّس لها العالم السويدي غونار ميردال عن الدولة الرخوة. في تقديري، انصرف الرئيس السيسي في وصفه ذاك إلى وظيفية مؤسسات الدولة بأكثر مما قصد بنية هياكلها ومقوماتها المستقرة في علوم القانون والسياسة وعلى مدار التاريخ. في مصر بالفعل هياكل دولة تبدو مؤسسية من حيث الشكل والتكوين، لكنها أيضاً تبدو سائلة رخوة في الأداء والكفاءة. ولعل لذلك أسبابه وتداعياته المنعكسة في تسيد شعور عام بعدم الرضا والإحباط مع تذرع بالصبر في انتظار ما لا يجيء ولعله آتٍ. وربما كان للسنوات الخمس الماضية وإرهاصات ثورتين غيَّرتا الكثير في المجال السياسي العام، إفرازات كثيرة، لعلَّ أبرزها انكشاف ضعف كفاءة الفاعلين السياسيين، ما أسهم في تنامي تشكيل المجتمع المدني البديل الذي سكن الفضاء الإلكتروني. عالم افتراضي غير محدد المعالم والبنية الفكرية، لكنه أحدث تأثيراً لم نكن نتوقع تداعياته، خصوصاً في نوعية الفاعلين فيه والمتحلقين حوله وبما أظهر تهاوي بنية السياسة وتفاعلاتها على أرض الواقع. وفي الوقت نفسه، تزايد دور المؤسسة العسكرية في مشاريع ومجالات التنمية بما يفوق طاقتها لتعويض عجز القدرة ونواقص الكفاءة في الجهاز الإداري للدولة. لكننا في المحصلة أمام مأزق ومعضلة ما بين شبه الدولة وشبه المجتمع، نعيش حالة من الفانتازيا في عالم الأشباه والمجتمع الافتراضي البديل. وإذا ما مددنا الخط على استقامته في مقولة الرئيس السيسي عن شبه الدولة، لوجدنا أنفسنا أمام «شبه العالم» الذي نرزح ونكابد جراء اغترابه وظلمه وغباء فاعليه ورموزه. ولقد حاولتُ قدر طاقتي إخضاع ذلك العالم الغرائبي في ظواهره وطباعه لكل مدارس العلم والفكر والفلسفة فاستعصى على التفسير، وحاولتُ تطبيق كل خرائط العقل كما عند جوزيف نوفاك وتوني بوزان وخرائط التفكير الثماني كما عند ديفيد هيرل، فأبى إلا أن يأتي غامضاً مفارقاً للواقع كما فانتازيا معاصرة تحلق في عوالم مسرح العبث. إنه عالم مزيَّف تتسيَّده شرائع الغاب متسربلة في مسوح عصرية تتلحف بدعاوى الإنسانية والشرعية الدولية وحقوق الإنسان، وتوظفها لمصلحتها وتضعها سيفاً مسلطاً على رقاب الدول الساعية للحرية والاستقلال والتنمية. وأنظر إلى المفارقات الفجة والمغالطات الزاعقة في معالجة الدول الكبرى لحادثتي الطائرة الروسية في آذار (مارس) الماضي وكيف ألَّبوا العالم علينا واستهدفوا مصالحنا، وإلى مراوغاتهم المخجلة في مسألة الطائرة الفرنسية. ثم أين قيادات ذلك العالم وشخوصهم الباهتة أمثال أوباما وديفيد كاميرون وموغيريني وأردوغان وغيرهم من شخصيات القضايا الكبرى من أمثال كينيدي وروزفلت وتشرشل وبرنو كرايسكي وفالدهايم وعبد الناصر ونهرو ونكروما وأنديرا غاندي، وأين شبه الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون من أمناء سابقين حقيقيين لا افتراضيين وهميين، من أمثال داغ همرشولد الذي أقام الدنيا ولم يقعدها لوقف العدوان الثلاثي على مصر في 1956، وضُربت طائرته في الجو فوق روديسيا (زيمبابوي حالياً) عام 1961 وهو يحاول إنقاذ الزعيم الأفريقي باتريس لومومبا؟ * كاتب مصري
مشاركة :