«سيمفونية نابوليون» لبارغس: عن تلك الصدمة الحضارية

  • 2/5/2016
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

تعتبر منشورات «طاشن» الألمانية واحدة من دور النشر الأضخم والأكثر ذكاء وأناقة كتب في العالم اليوم، حيث تنتشر فروعها في نحو دزينة من البلدان وتنتشر كتبها، متعددة اللغة، في بيوت ومكتبات هواة الفنون، كل أنواع الفنون، في العالم أجمع. وهذه الدار التي أسسها قبل ثلث قرن مثقف ألماني وزوجته كانا من ناشطي الثورات الشبابية في ألمانيا في ستينات وسبعينات القرن العشرين، اشتهرت خصوصاً بإصدار كتب فريدة من نوعها، وفريدة في ثمنها، فمرة نراها تنشر كتباً فنية فائقة الجمال في طبعات شعبية تكلف النسخة منها ما لا يزيد عن 8 دولارات، ثم نراها تنشر كتباً ضخمة عن الملاكم محمد علي كلاي، أو العمرانية العراقية زها حديد، يصل ثمن النسخة منها إلى ألوف الدولارات؛ ولعل من أشهر منشورات «طاشن» في السنوات الأخيرة، ذلك الكتاب الضخم الذي يبلغ ثمن النسخة أكثر من مئة يورو، ويحمل عنواناً بسيطاً هو «نابوليون». للوهلة الأولى سيخيل إلى الناس أن في الكتاب سيرة للقائد الفرنسي الشهير مزينة بلوحات تمثله في شتى مراحل مساره العسكري والسياسي. لكن هذا غير صحيح. ذلك أن السيرة هنا، في هذا الكتاب هي سيرة فيلم، وليست سيرة رجل. وأكثر من هذا: ليس الكتاب في حقيقة أمره سوى سيرة ذلك الفيلم الذي لم يتحقق أبداً. حيث إن المخرج الاميركي – الانكليزي الاستثنائي ستانلي كوبريك رحل عن عالمنا عام 1999، دون أن يتمكن من تحقيقه، هو الذي كان حلم تحقيق فيلم سينمائي عن نابوليون بونابرت قد داعب خياله طوال حياته، كان مرات ومرات على جدول أعماله. ومع هذا لم يتمكن أبداً من تحقيقه كما أن أي سينمائي آخر لم يفعل. ولكن ما حدث بعد ذلك وبخاصة بعد سنوات عديدة من رحيل السينمائي وسنوات أقل من رحيل الكاتب الذي سنعود إليه وإلى عمله بعد سطور كما بعد صدور الكتاب بفترة، قدمت إذاعة الـ «بي بي سي» البريطانية في الثاني من ديسمبر (كانون الأول) 2012، مسرحية إذاعية مقتبسة من المشروع نفسه. أو بالأحرى من ذلك النص الروائي الذي كان يفترض أن يكون في أساس مشروع كوبريك. > ولهذا النص عنوان لم يحمله كتاب طاشن الضخم على غلافه، وإنما حمله في الداخل على أي حال، هو «سيمفونية نابليون» أما صاحب النص فهو الكاتب الانكليزي انطوني بارغس، الذي كتبه أصلاً، بناءً على طلب ستانلي كوبريك في أوائل العام 1974. علماً أن كوبريك كان يحمل فكرة المشروع منذ سنوات الستين وقبل أن يتعرف على بارغس. وبالتالي فإن لهذا كله حكاية تبدو لنا هنا جديرة بأن تروى. > من المعروف أن ستانلي كوبريك، ومنذ بداياته السينمائية أواخر الخمسينات من القرن العشرين، كان يتطلع إلى أن يحقق فيلماً عن نابوليون بونابرت، ويكون في شكل أكثر دقة، عن مسألة السلطة وجنون السلطة لدى ذلك القائد الفرنسي الذي سعى إلى غزو العالم ذات يوم. وكان كوبريك يؤجل العمل على مشروعه فيلماً بعد فيلم، معلناً عجزه عن العثور على النص الملائم. وفي النهاية حين كان يشتغل على إنجاز فيلمه الضخم «البرتقال الآلي» في أوائل سنوات السبعين، أسرّ بالأمر إلى الكاتب انطوني بارغس، الذي كان قد اقتبس «البرتقال الآلي» من واحدة من أشهر رواياته وأكثرها مستقبليّةً. وما إن انقضت شهور يومها، حتى أبلغ بارغس صديقه السينمائي بأنه توصل إلى بنية فيلمية للمشروع ترتكز على أساس السيمفونية الثالثة لبيتهوفن. وهي كما يعرف هواة الموسيقى الكلاسيكية، السيمفونية نفسها التي كان الموسيقي الألماني الكبير قد كتبها تحية لنابوليون، حين كان هذا الأخير يصعد درجات المجد كقائد عادل يبني وطنه انطلاقاً من الأفكار التنويرية التقدمية للثورة الفرنسية التي أطلقته... ثم حين تحوّل بونابرت إلى عسكري يسعى إلى احتلال بلدان الآخرين، كفر به بيتهوفن وأزال اسمه عن السيمفونية ليجعل عنوانها «سيمفونية بطولية كتبت للاحتفال بذكرى رجل عظيم» لتُعرف لاحقاً بـ «سيمفونيا ايرويكا» (أي السيمفونية البطولية). حين انتهى بارغس من النص وأرسله إلى صديقه المخرج أنبأه في رسالة تفصيلية بأنه إنما أقام بنية المشروع على أساس تحويل النص – والفيلم بالتالي – إلى عمل أشبه ببناء سيمفوني في اربع حركات (وكان بارغس أصلاً موسيقياً هو نفسه). عندما قرأ كوبريك النص، أحبه لكنه أدرك من فوره انه من المستحيل أفلمته. وهكذا توقف المشروع السينمائي عند هذا الحد... > أما النص الأدبي فستكون له حياته الخاصة، حيث إن انطوني بارغس عاد وجعل له صياغة روائية تقوم بالفعل على مبدأ التقسيم السيمفوني، ونشره في العام 1974، ليحتل مكانة كبيرة لاحقاً في لائحة الأعمال الأدبية لذلك الكاتب الذي عرف كموسيقي وناقد، ولكنه عرف ايضاً كروائي اشتغل في بعض نصوصه على حيوات متخيَّلة انما تستند إلى الواقع، لبعض الشخصيات التاريخية، حيث، قبل كتابه عن نابوليون، كان له كتاب لا يقل عنه روعة يتناول سيرة «يسوع الناصري» نعرف أن المخرج الايطالي فرانكو نريفريللي اقتبسه في مسلسل تلفزيوني وحوّله أيضاً إلى فيلم سينمائي... > إذاً، وبصرف النظر عن مشروع ستانلي كوبريك، الذي سبق لنا أن تحدثنا عنه بالتفصيل على صفحات «الحياة»، كما بصرف النظر عن كتاب «طاشن» الذي أشرنا إليه أول هذا الكلام، ثمة الآن رواية مستقلة في ذاتها عنوانها «سيمفونية نابوليون»، تنطلق من سيمفونية بيتهوفن «البطولة» لتتحدث عن حياة الامبراطور الفرنسي، أو بالأحرى، ولنكون أكثر دقة، عن غزوات هذا الإمبراطور التي تسببت في «القطيعة» بين صاحب السيمفونية (بيتهوفن) وبينه. علماً أن تلك الغزوات وتتويج البطل العسكري نفسه امبراطوراً، كانت أموراً أثارت ليس استياء بيتهوفن وحده، بل كذلك الكثير من الفنانين والمثقفين والمفكرين الاوروبيين. وهو أمر يعبر عنه انطوني بارغس بقوة على صفحات هذه الرواية ولا سيما من خلال تركيزه بشكل خاص على حملة نابوليون على فلسطين ومصر، اذ جعل من غزو الجنرال لهذين البلدين المسلمين، مركز الثقل في الكتاب. > بالنسبة إلى بارغس، وكما نرى في الرواية، كان من سخرية القدر أن يتوجه بونابرت إلى مصر المسلمة «زاعماً» في رأي الكاتب، عبر إعلامه الدعاوي، أنه يكاد يكون مسلماً ويقدر الدين الإسلامي ويؤمن بالحضارة العربية. بل إن بارغس تعمد أن يأتي كل ما يلامس علاقة بونابرت بالإسلام، هزلياً مثيراً للسخرية. ومن هنا انهماك الكاتب في رسم صورة بالغة القوة، للمجتمعات الإسلامية عند نهاية القرن الثامن عشر، في تقاليدها وعاداتها وطرق عيشها، في مقابل رسمه تلك الصورة الكاريكاتورية لتصرفات الغازي الفرنسي. التناقض كبير في الرواية بين تصور بونابرت لدوره في ذلك المجتمع المسلم، وحقيقة هذا الأخير وتقبله للآتي من بلاد الكفار... والحقيقة أن هذا التناقض هو الذي يشكل العصب الأساس للرواية. ويبدو انه كان العنصر الأساس الذي حال بين ستانلي كوبريك وبين الإقدام على المشروع. فهو كما يبدو لم يكن كبير الاهتمام بتحقيق فيلم عن الصدمة الحضارية بين ما يمثله بونابرت، وما يتسم به المجتمع الذي غزاه. ما يهم كوبريك كان مسألة السلطة وجنونها. وفي الشرق الأدنى كما وصفه بارغس، لم يكن بونابرت قد بدأ جنونه السلطوي بعد. وعلى العكس من هذا، بالنسبة إلى بارغس ونصّه: فهذا الأخير، منذ عاش ردحاً من الزمن في ماليزيا واعتنق الإسلام خلال ذلك وعايش عن قرب، مجتمعاً مسلماً متفهماً توجسه تجاه غرب يأتيه غازياً متفوقاً، كان يحلم بأن يصور ذلك التوجس من منظور متفهم، وليس من منظور كولونيالي. ومن هنا اختلف الهدفان عن بعضهما البعض. وفيما رحل كوبريك آخذاً معه أحلامه النابوليونية، تمكن بارغس (1917-1993) من أن يكتب النص الذي أراد دائماً كتابته، جاعلاً منه رواية كبيرة، مهدت على أية حال لكتابة رواية أخرى اشتغل عليها بارغس لاحقاً، تعالج الصدمة الحضارية بين الشرق المسلم والغرب، هي «1958»، التي تحدثنا عنها في هذه الزاوية قبل أيام.

مشاركة :