الحكايات الشعبية الباسكية مثل شعبها تسكن الأحلام

  • 3/25/2023
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

مجموعة "حكايات بلاد الباسك الشعبية" التي جمعها وأعاد صياغتها بأسلوب أدبي معاصر الروائي والباحث الفلكلوري خوان كروث إغيرابيدي وصدرت باللغتين الباسكية والإسبانية، وترجمها أخيرا للعربية الكاتب والمترجم د.عبدالهادي سعدون، تكشف عن عمق تجليات الحضارة والتاريخ والثقافة وتأثيرها التكوين الروحي والوجداني للفرد، الأمر الذي ينعكس على عاداته وتقاليد وإبداعاته الشفاهية والفنية التي تتوارثها الأجيال جيلا بعد جيل. هذه الحكايات التي بلغ عددها 18 حكاية وصدرت ترجمتها العربية عن دار الرافدين 2023 ببيروت تكشف وفقا للمترجم أن الشخصيات في أغلبها موجودة داخل كل فرد. جميع الشخصيات هي جوانب من شخصيته، والتي تنضج بشق الأنفس. يعيش داخل عقل كل طفل أمير أو أميرة، ملك أو ملكة، أو ساحرة شريرة، أو جنية جميلة، أو زوجة أب أو زوج أم. يحارب قلب كل طفل الكائنات الشريرة ويطلب المساعدة من القلوب الحميدة. إنها معركة قاسية، حياة أو موت. لهذا السبب هذه الحكايات قاسية. لكنها ليست بالمعنى الأخلاقي، ولكن بمعنى إيقاظ الوعي النفسي. إن ما يسمى بقوى الشر تمزق الضمائر الضعيفة، والضمير الحي يعيد تكوينها بقوة متجددة. كما هو الحال في أسطورة إيزيس وأزوريس، عملية تقطيع أوصال الجسد، ومن ثم جمع العظام وإعادة بنائها لاحقاً عن طريق النَفس أو الغناء. يرى سعدون في مقدمته التي عنونها بـ "الذاكرة تحترق بنار الخيال المتجدد"، أن الفرد يكتشف من خلال الاستماع لهذه القصص المجموعة، أنه ينحدر من أب وأم أيا كانا يقومان بهذين الدورين في حياته. يجد في نفسه انعكاساً لأمه وأبيه، وحلمه أن يربط كلا الفكرين إلى الأبد، من أجل تقوية شخصيته والقيام بمغامرة الحياة بشجاعة. ليس للأم يد لتنتشلنا من نهر الحياة. علينا أن نذهب إلى الأم الداخلية، إلى الجنية الجميلة حتى لا نغرق. الأم ليس لديها ما يكفي من الحكمة لفهم كل شيء، علينا أن نجد الإبرة التي تخترق رأسها ونستخرجها في إشارة لرمزية عالية تلخص لنا محن الحياة نفسها. ولا يمكن للأب أن يحمينا من قبحنا، علينا أن نجعل الجمال الداخلي يزدهر بإيقاظ الجنية الجميلة التي نحملها بالداخل. لا يستطيع الآباء منعنا من مواجهة وحوش الوجود والبقاء، علينا أن نجد في أنفسنا المغامر الشجاع الذي يقطع رؤوس الكائنات الشريرة البشعة. نحن جميعاً نحمل داخلنا زوجة أب حسودة تتخلص منا وتقدم جسدنا المقطوع إلى الأب غير المدرك للمشكلة. مثل إيزيس وأوزوريس، نواجه الموت وتقطيع أوصال شخصية الطفولة البريئة وبعث شخصية بفستان أحمر جديد مليء بالحياة وبسلسلة ذهبية تختم الزواج الداخلي كما عليه (حكاية: أمي قتلتني وأبي أكلني)... وهي الحكاية النموذج وذلك لما لها من علاقة بتراثنا العربي في حكاياته الشعبية بالحدث والعنوان نفسه، والموجودة في اغلب النماذج الشعبية العربية والمشرقية عموماً". ويقول إنها حكايات من أراضي الباسك على جانبي جبال البرانس، يمكن أن تسافر بنا إلى أراضٍ أخرى، وعائلات أخرى، وبالتأكيد ستتحول وفقاً لعادات وأذواق من يقرأها. ربما ستتجول من منزل ريفي إلى حقل أو إلى كوخ. كما تحلق من خلال خيالك وأن تنبت في أرضك أينما تكون. وعلى الرغم من كل شيء، تنتهي دائماً بنهاية سعيدة كحال أغلب الحكايات الشعبية، إلا أنها تختبر قوة الأطفال كلعبة رمزية. يؤكد الكاتب المعد في مقدمته للكتاب قائلاً:" مثلاً عندما نلعب معهم ونتصنع قطع أنوفهم، يأخذونها على محمل الجد ويطالبوننا بإعادتها إليهم. وبنفس الطريقة، يتم تجميع جسد مقطوع في قصة بفعل السحر، تماماً كما يحدث عندما نعيد الأنف إلى مكانه. إنها ليست لعبة باردة، إنها شيء خطير للغاية، لأن الطفل يختبره كتقطيع الأوصال وإعادة تكوينه نفسياً." يعتبر تقطيع أوصال النفس وإعادة تكوينها عملية أساسية في تكوين النفس وشفائها، سواء في مرحلة الطفولة أو في مرحلة البلوغ، لهذا ننظر للحكايات بمثابة وعاء صالح لكل الأزمنة والأعمار. ويلفت إلى أنالكتاب يتناول الحكايات الشعبية لدى شعب بلد الباسك، أي الباسكيون لغة وثقافة وشعباً، وهم الذين عاشوا لقرون طوال في المناطق الشمالية لإسبانية والتي ينتمي جزء كبير منها لجنوب شرق فرنسا أيضاً. والمعروف أنه شعب يمتد إرثه اللغوي والثقافي لقرون طويلة ويجد الباحثون لهم علاقات ووشائج مع ثقافات المناطق البربرية في جبال الأطلس، كما تمتد صلاتهم بالمشرق من خلال العديد من تقاليد الفلكلور والتراث الشفاهي الممثل بالأغاني والرقصات والملاحم والحكايات الشعبية. ولمن لا يعرف معنى الباسك أو أي شيء عن بلادهم، يوضح سعدون أن "أصل الباسكيين شعباً ولغة موضوع مثير للجدل مما أدى إلى ظهور العديد من الفرضيات المحتملة التأكيد. إذ تعد لغة الباسك الحديثة لغة منطقة إقليم الباسك (بلاد البشكون) الذين يسكنون شمال إسبانيا والمنطقة المجاورة جنوب غرب فرنسا. وعلى الرغم من أن اللغة محاطة باللغات الهندو أوروبية، إلا أنها لغة معزولة عنهم وكأنها نبتت ووجدت لها أرضها بمعزل عن كل التأثيرات.هناك من يشير إلى كونها سليلة اللغة الأقطانية في جنوب شرق فرنسا ولغة بروتو الباسك. أما الفرضيات الرئيسية حول أصل الباسكيين فهي تلك النظرية السائدة التي بموجبها تشير إلى أن لغة الباسك قد تطورت على مدى آلاف السنين تماماً بين شمال شبه الجزيرة الإيبيرية وجنوب فرنسا الحالي، دون إمكانية إيجاد أي نوع من العلاقة بين لغة الباسك وغيرها من اللغات الحديثة. وتضع نظرية الباسك مع شبه الجزيرة الإيبيرية فرضيات عن وجود صلة قرابة بين الباسك واللغات الإيبيرية مثل القشتالية والغاليثية. وهناك من يفترض أن لغة الباسك ولغات القوقاز لهما علاقة مباشرة بسبب مشاركتها في بعض الأنماط اللغوية الغائبة في اللغات الأوربية الأخرى. ومن النظريات الجديدة هي تلك الصلة اللغوية البعيدة التي تم العثور على بعض مفرداتها وتعابيرها مع لغات الأمازيغ في جبال الأطلس. والقول كله للتصديق بها أو لا، فهي تؤكد إضافة إلى غموض أصل الباسك، قدمهم في المنطقة ثقافة ولغة وشعباً. ويختم أن الحكايات الباسكية مثل شعبها، تسكن الأحلام وتتنقل من ذهن إلى آخر، يتم نسيانها ويتم تذكرها، تستحم في مياه العواطف والمشاعر؛ تنبت وتتجذر في السهول أو المناطق الجبلية. تطير من مكان إلى آخر في أجواء الخيال والذاكرة والإبداع وتحترق بنار الرغبات والكلمات. تضيع القصص في عتمة الزمن، وهي تمر عبر العصور، سواء تلك التي نتذكرها ونوثقها أو تلك التي نحكم عليها في حفرة النسيان. وصلتنا هذه الحكايات من أراضي الباسك (بلد أو إقليم الباسك، شمال إسبانيا) جواً وبراً وبحراً. جمع إقليم الباسك قبل شعوب الهند الأوروبية التقاليد الأسطورية الأمومية، والتي اندمجت مع أخرى ساهمت بها الشعوب التي مرت عبر هذه الأراضي: السلتيون والرومان والقوط والعرب وجموع الحجيج الأوروبيين في طريقهم إلى أرض سانتياغو دي كومبوستيلا المقدسة. إنها رحلة عبر الأساطير والتقاليد الرئيسية لبلد الباسك، من الأساطير التأسيسية أو الأماكن الغامضة، مثل أساطير الشعوب الأولى إلى أساطير اللاميات والشياطين أو قصص القرويين والمحتالين الصغار والناس البسطاء الحالمين دائماً. على الرغم من أنه يشارك في خصائص الروايات التقليدية للثقافات الأخرى، إلا أن الفولكلور الباسكي يقدم شخصيات ومواقف وإعدادات متجذرة في أصولها الثقافية واللغوية. غالبًا ما ترتبط أساطيرهم بأسماء الأماكن، وتأخذنا عبر الجبال والأنهار والكهوف في جغرافيتهم الجميلة ما يشكل سمة من سمات الحكايات الشعبية فيها. نموذج ** قتلتني أمي وأبي أكلني "قتلتني أمي، ابي اكلني. أختي الجميلة أعادتني إلى الحياة." زوجان لم يكن لهما أطفال وكانت المرأة تشكو حظها التعيس. بجانب المنزل، بستان جميل. ذات شتاء، غطت الثلوج البستان. خرجت المرأة إلى البستان، وخزت نفسها في شوكة العرعر؛ تركت بقعة دماء على الثلج الأبيض. -إذا أنجبت طفلاً! – تنهدت برغبة-. طفل وردي مثل هذا الدم وأبيض مثل هذا الثلج. مر الوقت، وأخيراً رزقت بطفل جميل. ومع ذلك، كانت الأم في حالة ذهول. وتحدثت مع زوجها: - إذا مت قريبًا، أود أن تدفني تحت شجرة العرعر في الحديقة. ـ ولكن ماذا تقولين يا عزيزتي؟ لن تموتي قريبًا. سوف نشيخ معاً. لكن ذلك حدث. توفيت الأم الشابة بعد أيام قليلة، ودُفنت تحت شجرة العرعر في البستان. تزوج الرجل مرة ثانية وتبنيا فتاة. نشأ الشابان معاً وعاشا مثل الأخوة الطيبين. ومع ذلك، لم تستطع الأم الجديدة أن تنجب طفلاً. في مناسبة معينة، ذهب الأب للعمل في الحقول، وبقيت الأم لتعتني بالفرن. احتاجت إلى بعض الأغصان الجافة لإشعال النار وأرسلت الطفلين إلى الغابة لجمعها. وعدتهما " منْ يعود أولاً سيأكل أكبر كعكة". ذهب الطفلان إلى الغابة وجمعا ما يكفي من الأغصان الجافة. فجأة شعر الشاب بالحاجة. سأل أخته: "انتظري قليلاً". لا بد لي من أن أنزل سروالي لقضاء حاجتي. ـ لن تخدعني ـ ردت الأخت. لتذهب بعدها قبلي وتحصل على الكعكة الكبيرة، أليس كذلك؟ تركت الفتاة شقيقها وعادت مسرعة إلى البيت. انتهى الشاب من القيام بعمله وذهب في أثر أخته. وصل إليها. كانت الفتاة متعرقة ومرهقة. ـ انتظرني يا أخي. لا أستطيع الجري أكثر من ذلك!ترجته شقيقته. ـ لن تخدعيني ـ رد الأخ. لتذهبي بعدها قبلي وتحصلين على الكعكة الكبيرة، أليس كذلك؟ وترك أخته وراءه وكان أول من وصل. ـ أمي! صرخ. وطرق على الباب. افتحي! أمرت زوجة الأب: " دسْ يدك عبر النافذة". أطاع الولد، وقطعتها المرأة الشريرة بفأس. "الآن الأخرى"، أمتثل لها مرة ثانية. وقامت بقطعها، ثم الساقين وأخيرا الرأس. ثم فتحت الباب وألقت القطع في قدر كبير، وتركتها تطبخ. وصلت الفتاة تلهث وسألت والدتها عن أخيها. ـ لا بد انه ذهب عند الجدة، ليرى الجراء حديثة الولادة. ركضت الفتاة إلى منزل جدتها، لكن شقيقها لم يكن هناك. ـ لا بد انه ذهب عند الجدة الأخرى، ليرى الأبقار حديثة الولادة. قالت لها الأم في تلك اللحظة، انتبهت الفتاة للقدر الذي كان يغلي، ورأت إصبعاً يطل منه. لم تسأل أكثر عن أخيها. بعد ذلك، أمرتها الأم بإحضار الطعام إلى والدها. غادرت الفتاة مع الصحن ولم تتوقف عن البكاء أثناء الرحلة. كان تعلم أن والدها سيأكل جسد أخيها. وفجأة ظهرت له جنية جميلة. "لماذا تبكين يا فتاة؟" سألت. ـ زوجة أبي قتلت أخي، وسوف تطعمه لأبي. عند ذلك أمرتها الجنية الجميلة: - التقطي العظام التي يرميها والدك على الأرض واجمعيها على السطح. وهذا ما قامت به الفتاة. كانت تتسلق السطح كل يوم ومعها المزيد من عظام أخيها، وتبكي معها بلا هوادة. شيئاً فشيئاً، قامت زوجة الأب القاسية بإطعام الأب جسد الطفل بالكامل.ذات ليلة رفعت الفتاة آخر عظم من عظام شقيقها إلى السطح وسقيها بدموعها. في صباح اليوم التالي، سمع من غرفتها أغنية قادمة من السطح: "قتلتني أمي وأكلني أبي؛ أختي الجميلة أعادتني إلى الحياة." في المطبخ، سأل الأب زوجة الأب القاسية: ما هذه الأغنية؟ - إنها الطيور. ماذا يمكن أن يكون؟ ردت زوجة الأب الشريرة. لكن الأب لم يكتف بالإجابة وصعد إلى السطح. وجد ابنه يغني. أعطى الفتى والده سلسلة ذهبية جميلة. في تلك اللحظة، خرجت الفتاة إلى الحديقة، ورمى شقيقها ثوباً أحمر جميلاً من على السطح.ركضت الفتاة سعيدة لعرض الفستان على أمها. -انظري أمي، يا له من فستان جميل! ـ أريد واحداً مثله أيضا! قالت زوجة الأب حسداً. من اين حصلت عليه؟ ـ رماه أخي من على السطح. إنه يغني، ويجلس بجانب أبي. خرجت زوجة الأب وتحدثت بوقاحة: ـ إرمْ لي فستاناً آخر، يا فتى! فأجابها الفتى: ـ سألقيه من فوهة المدخنة. قفي أسفلها. ركضت زوجة الأب إلى المدفأة. قام الشاب بنبش السخام من المدخنة. خرجت زوجة الأب القاسية مغطاة بالسخام، تسعل بلا توقف، وطارت بعيداً. اختفت في الأفق إلى الأبد. منذ ذلك الحين، عاش الشابان سعيدان رفقة أبيهما.

مشاركة :