'تاسوع الخليل الأخير' لمحمد الطيب يوسف تخييل متعدد الطوابق

  • 3/27/2023
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

منهج البحث اتبعت في هذا المبحث منهج البحث "الوصفي التحليلي" وقواعد منهج "استجابة القارئ"، كما عبرت عنها أعمال رواده: نورمان هولاند (Norman Holland) وستانلي فيش (ٍStanley Fish) وفولفجانج ايسر (Wolfgang Iser) وهانز روبرت ياوس (Hans Robert Jauss) ورولان بارت (Roland Barthes)، كما حاولت فيه إعمال بعض المعايير التي كنت قد خلصت إليها في تأملات نقدية سابقة في مجال السرد. مقدمة لقد بدأت قراءة تاسوع الخليل بطريقة خاطئة، فقبل أن أشرع في القراءة، ذهبت أبحث عن تفسير لعنوانها "خارجها". قرأت "كل" ما عثرت عليه مما كُتب عن "التاسوع"، ثم ولجت للرواية لاكتشف أن "تاسوع" محمـد الطيب لا يمت بصلة "لتاسوع هليوبوليس" عند قدماء المصريين. وأنا أمضي في القراءة اكتشفت أن محمـد الطيب يواصل مغامرته التجريبية فيكتب رواية "مختلفة" عن كل رواياته السابقة، فبدلًا من عرض حال "واقع" موجود سلفًا، قرر محـمد الطيب أن "يجترح" عالمه السردي الخاص "التاسوع". وهو عالم اجتهد في إقامة أركانه على هدي قاعدة واحدة هي قاعدة "الاختلاف". الاختلاف عن أي عالم آخر، واقعيًا كان أو موازيًا، وهو في ذلك يواصل السير في الطريق الصعب والشائك الذي ابتدرته الرائدة زينب بليل في روايتها "المختلفة" حاملات القرابين. ما أن أكملت قراءة النسخة الورقية من تاسوع الخليل الأخير، حتى عمدت إلى التخلي عن كل ما سجلته من رؤى "خلال" قراءتي للنسخة الإلكترونية منها، فقد اكتشفت أن مفتاح فهم هذه السردية يكمن تحديدًا في الصفحات الأخيرة منها. في تلك الصفحات يكتشف القارئ أن التاسوع، والخليل وكل شخوص وأحداث الرواية، بكل ما فيها من تشويق وإثارة وشجى وشجن لم تكن سوى "توهمات" داخل "التوهم" السردي، أراد محمـد الطيب من خلالها أن "يُشرِح" و"يفضح" الخليل وهو ينظر؟ لدواخله من خارجها. (2) خصائص سردية (تاسوع الخليل الأخير) التاسوع رواية أسئلة: رحلة قراءة "تاسوع الخليل الأخير" هي بالضرورة رحلة تساؤل. أسئلة تطرحها قراءة النص على القارئ، وأسئلة يطرحها المؤلف في متن النص. وأسئلة تتولد عن الإجابات التي تتبدى للقارئ. أول الأسئلة التي أثارتها السردية عندي هي سؤال "التاسوع": هل هو زمان أم مكان؟ هل هو هنا أم هناك؟ هل هو اللامكان؟ هل هو اللازمان؟ أم هو (الزمكان)؟ بعد رحلة قراءة مليئة بالاستمتاع والدهشة والأسئلة؟ المتوالدة والتشويق السردي والصور المتألقة، وصلت لحقيقة أن تاسوع الخليل لم يكن سوى الخليل نفسه وهو ينظر "لحياته" ودواخله، من خارجها. على أن "التاسوع" ليس السؤال الوحيد في الرواية، فكل "شخصية" من شخوصها تشكل العديد من الأسئلة. وتلك الأسئلة تبقى في كثير من الأحيان بلا إجابة واضحة أو على الأقل بلا إجابة محددة قاطعة. في محاولة لمقاربة احصائية وجدت ما يقرب من ثلاثمائة علامة استفهام في صفحات الرواية. وسأورد بعضًا من الأسئلة التي وردت، على سبيل التدليل إلا أن "التساؤل" كان واحدًا من الأدوات السردية التي لجأ إليها محمد الطيب لخلخلة القناعات الراسخة، أو لبناء قناعات جديدة. (- مَن يدري؟ هناك احتمالاتٌ لا نهائية إلى ما سيقودنا إليه الفضول، هل تظنُّ مثلًا أن الإنسانَ في فجر التاريخ، لدغته الأفعى أولًا أم هو من اقترب منها فلدغته دفاعًا عن نفسها؟) صفحة 45 (- فكر الطاهر في العلة في وجود الجمال في التاسوع، لماذا تبدو جبال المناجم جميلةً، ومن الذي يهتم لرؤية هذا الجمال؟) صفحة 46 (- أنحن موتى أم في الطريق إلى الموت؟ هل هذا هو الجحيم؟) صفحة 48 (- ترى، أيّهما أفضل، جهلُ الخراف أم إدراكُها يا صديقي؟) صفحة 53 "التساؤل" في تاسوع الخليل الأخير "نسق" سردي مقصود، متماسك، ومتصاعد، يقود خطى القارئ نحو الأحداث المفصلية في السرد أحيانًا، أو يلقي عليها بالضوء، أو بالمزيد من الغموض في أحيان أخرى. أراد محـمد الطيب "بتجريبه" لنسق "التساؤل" أن يجعل من القارئ كاتبًا ثانيًا للرواية. وقد نجح في ذلك، معي على الأقل، فقد قرأت التاسوع ثلاث مرات، وفي كل مرة كنت كأنما أقرأ "روايةً أخرى". هل التاسوع: عالم أم عوالم: اختار محـمد الطيب لسرديته فضاءً مكانيًا عصيًا على الفهم. التاسوع منبع للتساؤلات التي لا تنتهي، بل تتصاعد وتتعقد، فلو سلم القارئ جدلًا بأن "التاسوع"، على المستوى الجماعي، "مكان"، فسيكتشف وهو يمضي في القراءة بأن "التاسوع" يحمل، على المستوى الفردي، بعض خصائص "الزمان". ورغم أن "التاسوع" كمكان هو "ديمومة" "فتاسوع" كل ساكن من سكانه "تسعة" أيام، لا تنقص ولا تزيد. حين نتحدث عن "التاسوع" ينبغي أن نأخذ في اعتبارنا أنه عالم له "نواميسه" الخاصة. عندما نستخدم كلمة "يوم" مثلًا فإنها تكتسب في "التاسوع" معنىً مختلفً: (يقولون في التاسوع إنّ اليوم بعشرة أعوام من عالمِهم السّابق. إن كان هذا الافتراض صحيحًا، فقد عاش الزبير تسعين عامًا من الخوف والقلق، ووخز الضمير، ومعاشرة غبار الحنين ولبأه) صفحة 80 وحتى هنا، فإن الأمر أمر احتمالات يحفها محمد الطيب بلفظين من عوالك الشك. يبدأ الاقتباس بكلمة "يقولون" ليمضي في "خلخلة" يقين القارئ بإضافة عبارة "ولو كان هذا الافتراض صحيحا". ولا يكاد القارئ يجد في السردية من تعريف "للتاسوع" يخلو من "التشكيك" ما من ثابتٍ فيما يقدمه محمـد الطيب عن "التاسوع"، إلا أنه "عالم مختلف": (لم تكن السّماء مثلَ أيّ سماء. لا تنثني عندَ خط الأفق لتصافح الأرض، ولكنها ممتدةً وطويلة، ما جعل عالم التاسوع يبدو مثلَ ممرٍّ هائلٍ، تحدّه سماء تلونها ألوانُ الشّفق غالبًا، وشحوبُ الفجر نادرًا. يمتد هذا الممر حتى سلسلةِ جبال المناجم، حيث يعملُ وزير المالية السابق ووزير الدفاع الأسبق كعمال مناجم، وإن غاب عن الخليل في أوَّل قدومه الحكمة من التّعدين في التاسوع، حيث تنتهي الملكيةُ وتموت الأطماع.) ص 5 ونمضي في القراءة، فنكاد نقتنع بأن "التاسوع" عالم أحياء، كما في صفحة 12 (تردد قليلًا قبل أن يبتّ أمرَه قائلًا:- أفكر أحيانًا أنّنا موتى) لكن محمـد الطيب لا يلبث إلا قليلًا حتى يلمح لنا بأن التاسوع هو "الموت"، فيقول في الصفحة التالية: (لو أن هذا هو الموت، فهو عمل عبثيٌّ بلا شك. أسأل نفسي كثيرا، ما جدوى كل هذا الانتظار، حتى تبتلعنا إحدى الدائرتين، وأيهما ستقودنا إلى الجنة وأيهما ستقودنا إلى النار). الإجابات التي اقدمها السردية عن "طبيعة التاسوع" إجابات متناقضة متضاربة متعارضة، قصد منها محمد الطيب أن "يخلخل" قناعات القارئ وأن يهز مسلمات "العالم العادي"، لمصلحة "العالم السردي" الذي اجترحه وسماه "التاسوع" وفوق ذلك فإن "التاسوع" ليس عالمًا ثابتًا، فخلال "زمن السرد" الذي لا يتجاوز ثلاثة أيام، تبدأ باليوم السادس من تاسوع الخليل وتنتهي في اليوم التاسع منه، يمر "عالم" التاسوع بثلاث مراحل. المرحلة الأولى منها "تاسوعيةً" كاملة الدسم، خلالها يتميز التاسوع بخاصته الأساسية وهي غياب الأحاسيس والغرائز البشرية، باستثناء "الحنين": فليس في "التاسوع" جوع ولا عطش ولا حب ولا كراهية ولا نوم، حتى "الحنين" الذي ينثر "لباه" السر بقاطرته العجيبة فهو "حنين" مختلف، لا يمت لحنين العالم العادي بأي صلة، هذا الغياب للغرائز والأحاسيس "البشرية" يجعل من "التاسوع" عالمًا يسوده "السلام"، لكنه سلام "رتيب""مضجر". في المرحلة الثانية تتبدل نواميس "التاسوع"، ويظهر الإحساس بالجوع والعطش والحاجة للنوم. والأهم من ذلك، يظهر "الحنين" بمعناه "الأرضي". في هذه المرحلة "القصيرة" يقترب: "التاسوع" من "نواميس" عالم البشر. يتلاشى في هذه المرحلة "السلام" المضجر الممل، ليحل محله الصراع المفضي للقتل، لكن "نواميس" التاسوع لا تلبث أن تسود فيعود إليه، في المرحلة الثالثة، ذلك "السلام" الخالي من الغرائز والأحاسيس البشرية... السلام المضجر الممل الذي هو جوهر "التاسوع" كعالم خالٍ من الغرائز والأحاسيس. بموازاة "عوالم التاسوع" يحيلنا محمـد الطيب للعالم "الحقيقي" في انتقالات خاطفة بين العالمين. تتم هذه الانتقالات من خلال "التذكر" والتأمل، أحلام الصحو، إذ علينا أن نتذكر أن التاسوع عالم لا يعرف "النوم"، ولا الجوع ولا العطش ولا الجنس. (3) بناء الشخوص في الرواية في مواجهة محدودية الفضاء المكاني للتاسوع وضيق مداه الزمني الذي لا يتعدى الثلاثة أيام، لجأ محمد الطيب إلى البناء الخارجي لشخوص سرديته من خلال تقنية الوصف، لكن الوصف في التاسوع وصف "حركي" من خلال "الحدث. أما في البناء الداخلي لشخوصه فقد اعتمد محمد الطيب على تقنية "الاسترجاع". وهي ذات اللعبة التي لجأ إليها للخروج من قيد زمان السرد الذي حدده بثلاثة أيام. خلال أقامتهم / إقامتهن القصيرة (9 أيام)، في "التاسوع" يقوم "التاسوعيين" بنقل القارئ مرات متعددة للماضي من خلال التأمل في حياتهم / حياتهن "ما قبل التاسوعية"، وبجانب أن هذه الانتقالات للماضي استطاعت أن تدخل القارئ في عوالم الشخوص الداخلية، فإن محمد الطيب استطاع من خلالها أن يجعل روايته تشتمل على عدة روايات في داخلها، فالتاسوع في جانب من جوانبها هي روايات موازية للخليل وثريا وماريا، وروايات لشخوص من خارج التاسوع، ربطتهم علاقة ما بالتاسوعيين. (غاص الخليل في داخلِه. رحلَ بالذاكرة إلى عالمِه الأرضيِّ، يبدو الماضي كأضغاثِ حلمٍ ذات ليلة صيفيَّة حارّة. زوجته صفيّة، قلة الثقة، أشواك الشك التي انغرست عميقاً في لحم علاقتهما، خلافاتهما الرتيبة، والتي تتراكم من حولها الخلافاتُ والمشاكل الصغيرة دون أن تُحل، حتى تحولت إلى حاجز ضخمٍ يحجز بينهما، جعل حياتهما جافة وباردةً مثلَ قطعة خبزٍ بائت، تذكر عملَه في مصلحة الضرائب، غضّه الطرفَ عن التجاوزاتِ التي تزكم أنفه، وادعائهِ الدائم بأنَّ الأمرَ لا يخصَّه. تمر عشرات المعاملات تحتَ عينيه تزدحم بالتَّجاوزات، ولكنَّه يتظاهر بالعَمى. لم تكن مهمتُه إصلاحَ العالم، بل التعايش معه. ليس صدفة أن تكون مهمته هنا إزالةَ الأوساخ قبلَ تراكمها، وإيصالَها إلى عمال المناجم ليشعلوا بها النار ويضيئوا الكهوف (...)، كأنّ ما يعتمل في سريرتِه، يستحيلُ حياة في عالم التّاسوع وقوانينه العجيبة. تبدو المعضلة أكثر عمقًا، وإثارة للجدل. هل ما يعتمل في سريرته من جبنٍ وخور ومحبة للسلامة بغضِّ الطرفِ والتظاهرِ بالعَمى هو من تحكم في حياته هنا؟ أم أن سريرتَه نفسَها بعكرها وقلة نقائها وذاتيتها وأنانيّتها هي من حددت مصيرَه في عالم التاسوع؟) ص 11  (4) اللغة في تاسوع الخليل الأخير الواقع أن اختيار محمـد الطيب لعنوان روايته قد فرض عليه التزامات صعبة جدًا، تتعلق باللغة وتقنيات السر. وأضاف اختيار فضاء زماني قصير (ثلاثة أيام تبدأ باليوم السادس من تاسوع الخليل وتنتهي في اليوم التاسع منه) مزيدًا من الصعوبة لهذه الالتزامات. أول هذه الالتزامات الصعبة تتعلق بالسجل اللغوي لنمط "القول" في الرواية. وقد استخدمنا تعبير (Registre Linguistique) في هذا المبحث بمعني سجل اللغة، (ويمكن تسميته أيضًا مستوى اللغة أو نمط اللغة) حسب تعريف معجم لاروس الفرنسي ومعاجم فرنسية أخرى "كنمط / نسق من التعبير اللغوي يتكيف مع حالة (قول / تعبير) معينة، تتميز على وجه الخصوص باختيارات المفردات وتركيب الجمل والخصائص النحوية وطريقة نطق معينة". خصوصية عالم / عوالم "التاسوع" كواقع مختلف تمامًا عن "العالم الحقيقي" وكواقع مخالف له نواميسه الخاصة، فرضت على محمد الطيب أن يلجأ، في غالب الرواية، إلى سجل لغوي من مستوى "عالي" (register soutenu)، توخيًا للدقة. على أن ذلك المستوى اللغوي "العالي" تميز في التاسوع بتراكيب لغوية "بسيطة" جعلته سلسًا وغير معيقٍ للفهم. كما تميز الأسلوب اللغوي بالشعرية والطابع العرفاني الصوفي. (تداعت أسرابُ طيور التاسوع من خلف جبال المناجم ومن دغلِ أشجار الحياة، ومن خلف الدغل، ومن حيثُ لا يعلم أحدٌ، حطت على أسقفِ المنازل، وشجيراتِ الحياة، وأعلى الهضابِ المهجورة، وعلى الأديمِ الممزوج بغبار الحنين "..." ثم أخيرًا ظهر الذي لا اسمَ له، قادمًا من خلف جبال المناجم، يحمل عصاه يتوكأ عليها، عبر من أمامهم وسطَ حشدِ طيورِ التاسوع، كأنه يمشي في البحر، مشى بخطوات متئدة "..." تبعته أسراب طيور التاسوع مشيًا، وهي تنعقُ بصوت رخيم، جاوبها ضباء الثعالب المتألمة وكأنّها تزوم). على أن مستوى اللغة في التاسوع لم يكن "ثابتًا"، فقد التزم محمـد الطيب نمطا آخر من "اللغة" يقترب في كثير من المواضع من اللغة "المعيارية الوسطية". يبرز هذا النمط اللغوي بصورة واضحة في المواضع الحوارية. كما أنه يكاد يسود في مرحلة تغير نواميس التاسوع، عندما بدأت الغرائز والأحاسيس "الأرضية" في الظهور بعالم التاسوع. (تحركا ببطء، دارا حول الهضاب وصَعِدَا بعضَها، وحين دنوا من الجبال وأصبحَ المشي صعبًا بسبب الصخور الصغيرة الحجم، ظهر لهم شبح الثلاثة قادمين من الاتجاه المعاكس. توقف الخليل في مكانه وألقى جاروفه ثم تهاوى على الأرض، وقفت ثرية بجواره. ينخر البردُ في عظامِهما، تشعر بلسعة الجوع ولكنها لم تبحُ بها. احتضنت ماريَّة وحيّت الطاهر والسر، في حين أحاطا بالخليل للاطمئنان عليه. أنبأهما الخليل بما دارَ في غيابهم، فأظهر الطاهر دهشته من نوبة النُّعاس التي اجتاحت الخليل) صفحة 113 وتميزت "خواتيم" الرواية أيضًا بمستوى لغوي مختلف عن "المستوى العالي" لأغلب أجزائها. ذلك أن هذه الخواتيم شهدت عودة الخليل للعالم "الأرضي"، مما حتم على محمـد الطيب أن يقترب، في أسلوبه اللغوي من لغة ذلك العالم "العادية". تعدد المستويات اللغوية في "تاسوع الخليل الأخير" أسهم بفعالية في "سلاسة" القراء وطرد "بوادر" الملل التي قد تتسرب لنفس القارئ من "تواصل" بنمط لغوي معين. على أن محـمد الطيب التزم في كل السردية باستخدام اللغة العربية "الفصحى" بمستوياتها المختلفة. ولعل نيته في تقديم الرواية إلى مسابقة "بكار" قد دفعته إلى "تعديل" البناء اللغوي للرواية ليتناسب مع قارئها "المحتمل". الجهد الكبير الذي بذله المؤلف والناشر في التدقيق اللغوي قلل كثيرًا من عدد الأخطاء اللغوية في الطبعة السودانية من الرواية، لكنني رغم ذلك وجدت "خطأً" واضحًا في التصميم الداخلي وعددًا من الأخطاء اللغوية، أتمنى أن يتم تفاديها في الطبعات القادمة. (4) تقنيات السرد في التاسوع تقنية الاسترجاع (Flashback): اعتمد محـمد الطيب نهجًا "تجريبيًا" في انتقاء تقنيات وأساليب السرد في روايته، بجانب الوصف "المشوق" وسرد الأحداث في تتابعها الزمني المعتاد، وغيرها من أساليب السرد المعهودة، لجأ محمـد الطيب لتقنية أو أسلوب الاسترجاع (Flashback). وهي "تقنية" سردية لعبت دورًا مزدوجًا في تجاوز القصر البالغ للزمن السردي "3 أيام"، كما ساهمت في تقديم مقارنة بين العالمين، (عالم التاسوع) و(عالم ما قبل التاسوع) بالنسبة للخليل وغيره من شخوص الرواية: (- لو كان هذا هو الموت، فهو لا يبدو سيئًا في المُطلق. نعم، هو جردني من كلّ ما كان يشكل معنًى في حياتي، الشّهرة، الأضواء، العلاقات الجيّدة، النّساء الجميلات، دعوات العشاء الفخمة، الليالي الثقافيّة، الحوارات المثمرة، وقدَّمَ لي بدلًا من ذلك عزلةَ التاسوع، ثم عزلةً مضاعفةً بمنزلي جوار الدغل، لا أخرج منه كي ألقاكم إلا بملابس ممزقة وجلد دامٍ، من خدوش أشواك شجرة الحياة البغيضة، ألا يبدو هذا مدهشًا؟ انظر إلى شجيرةِ الحياة وهي تبدو غضّةً، رقيقة، بزهورها الحمراء القانية، وجمالها البارع، ثم انظر إليها شجرة ضخمة، بأشواكها التي تبدو كالحرابِ، عدائية ومؤذية، أنتم تتجنبونها بالتّجاهلِ، ولكن بالنسبة إلي، هي كحراس لسجني الإجباري في منزلي القصي البعيد.) صفحة 14 الحلم: رغم أن "النوم" لا مكان له في نواميس عالم التاسوع، فإن محمـد الطيب يحتال لإدخاله، مستفيدًا من مرحلة اضطراب نواميس التاسوع المؤقتة. وتلك واحدة من أهم ملامح التجريب في الرواية، فالتاسوع بكامله عالم فانتازي خلقه خيال الروائي. والحلم في مثل هذا العالم الخيالي يعتبر "تخييلًا داخل التخييل". (تسللت صرخةٌ ضعيفة عبرَ أذنه، وولجت إلى عقله، لتضيف خلفيةً صوتية غير منطقية إلى حلمِه. حتى في منامه، أدركَ أن الصرخةَ لا تتناسب مع الحلم الذي يدور في مصلحةِ الضرائب، ومدير المؤسّسة يحاول القفز عاليًا، فترتج بطنه، ويغرقون في الضَّحِك، ولكنه يواصل القفز بإصرار. فتح عينيه، نظر حوله متعجباً كأنه يرى غرفته الخالية من الأثاث للمرّة الأولى، ثم انتبه لصرخة ثانية تأتي من مكانٍ ما. أدرك بقلبه أنها ثرية، نهضَ فَزِعًا من رقدته، فتح البابَ وتناول جاروفًا، وركض جهةَ دغل الحياة، متبعًا حدسه). الحوارات: تكتسب المقاطع الحوارية أهمية استثنائية في سردية التاسوع، فهي ليست مجرد محاولة لكسر "الإملال". تلعب المقاطع الحوارية دور "الرافعة" في إضاءة التقاطعات في العلاقات البينية لسكان هذا العالم / المعزل. ففي غياب الأحاسيس والغرائز يبقى الحوار بين سكان التاسوع الوسيلة الأمثل لكشف أغوار نفوسهم من خلال ما "يفضفضون" به لبعضهم عن "حيواتهم" ما قبل التاسوعية. (يصل صوته إلى الخليل كأنّه آتٍ من جوف المنجم حين رفع عينين مغرقتين بالعذاب وتابع: - كانت صفقةَ أسلحةٍ مستوردة، غضضت النظرَ عن بعض الشّروط. قطع حديثَه ونهض من مكانِه. ابتعد مقتربًا من الهاوية، وتبعه الخليل بخطوات متثاقلة دونَ أن يتفوه بكلمة. التفت نحوه مكملًا: - لم أستطع الاستمرار بعدَها في عملي، ما حدث أقوى من قدرتي على الاحتمال. استقلت وأحلت إلى المعاش. نسيني النّاس ولكني لم أنسَ. ظل ما حدث يؤرقني، بل إنّني كدتُ في وقت من الأوقات، أسلّمُ نفسي وأقرّ بما فعلت رغم علمي بالمصير الذي ينتظرني، ولكني جبنت. نظرت لزوجتي وأبنائي وعلمت ألا قدرة لهم على احتمال قرار كهذا وهم يرونني مثالًا وقدوة. عشت منافقًا يحاكمني ضميري أناءَ الليل وأطرافَ النهار، حتّى وجدت نفسي هنا في هذا التاسوع اللَّعين، أدفع ثمنَ خطأ واحد آلاف المرات) الرواية داخل الرواية ذلك هو سر التاسوع الأعظم الذي لا يدركه القارئ إلا في الخاتمة. بعد رحلة طويلة من القراءة المثيرة (للقلق والدهشة والمتعة والترقب والتساؤل والانتظار) يكتشف القارئ أن التاسوع ليس سوى "رواية داخل رواية". ومنذ أن قرأت "المعلم ومارغريتا" لميخائيل بولغاكوف في الثمانينات، وصلت لقناعة راسخ بأن "الرواية داخل الرواية" هي أفضل السرديات. لذلك يمكنني أن أقول بكل اطمئنان أن "التاسوع" هي أفضل ما كتب محمـد الطيب حتى الآن، في نظري على الأقل...

مشاركة :