الموهبة وحدها لا تخلق كاتباً، الكتابة الأدبية ما بين الصنعة والالتزام والإلهام، ماذا تقول عن هذا المنحى؟ يظل جوهر هذا الأمر هو الالتزام اتجاه فعل الكتابة نفسه، وهذا ليس تجاهلاً للموهبة ودورها في تشكيل الكاتب، ولكن موهبة الكتابة موهبة شبه مكتسبة تظل مخفية فيجليها الالتزام بالقراءة لسنوات تطول أو تقصر، لذا تجدني موقناً بأن العمل اليومي الروتيني الذي يدفعك للجلوس لساعات طويلة أمام بياض الورق وزرقة الشاشات الصامتة هو الموجه الأول للكاتب، لا أؤمن بالإلهام، فهو مجاز يمنح الفعل الكتابي درجة من الفانتازيا تكسبه بريقاً جاذباً ولكن قل لي ما الإلهام أقل لك ما هو دوره في الفعل الكتابي، أنا أؤمن بالومضة، موقف ما يحدث أمام عينيك، تداعي الأفكار الذي لا يبدو منطقياً فيؤدي بك إلى مواجهة فعل الكتابة، حتى الروتين اليومي لممارسة الكتابة يعتبر دافعاً حقيقيا للمزيد منها، ولا مفر من الصنعة بالطبع، فالمسودة الأولى تعتبر خاماً، برائحة نفاذة وطعم لاذع ولا مفر من إضافة المزيد من بهارات الكتابة كما يقال، ثم يأتي فعل الحذف الذي لا يقل أهمية عن فعل التدوين نفسه، وهو يقتضي قدراً كبيرا من الحزم، فبتر أجزاء من مولودك الجديد عملية موجعة حتى وإن كنت تنفخ فيه الروح وتمنحه الحياة ما هو رأي محمد الطيب في ورش الكتابة الإبداعية؟ هل الكاتب في حاجة لجهة تصنعه وتوجهه، أم في بادئ الأمر على الحالة الإبداعية أن تنبع من أحاسيس لا واعية تفرض ذاتها على الكاتب؟ لا أقلل من قيمة ورش الكتابة الإبداعية فمن يرى أنها ستفيده فعليه حضورها، أنا لم أتابع أي ورشة مختصة بالكتابة من قبل، ولكن ما لا شك فيه أنني ومن خلال رؤيتي للكتابة كصنعة إؤمن أن هناك تقنيات سردية يمكن أن يكتسبها القارئ بالقراءة المكثفة أو ربما عن طريق ورش متخصصة. في عصر أحد الأيام وبعد نهاية مباراة بيسبول، استلقى الكاتب الياباني هاروكي موراكامي على عشب الملعب، وأخذ ينظر للسماء، فخطرت له فكرة أنه ربما يستطيع أن يكتب رواية! ويقول: أنا لا أعرف لماذا. وبدأ مشروعه ككاتب في تلك الليلة. نعم حالة غريبة شأن كتاباته، ولكن، هل بإمكان محمد الطيب أن يلتقط لنا تلك اللحظة؟ أذكر مغازلتي لكتابة القصة القصيرة أيام الجامعة وهيبتي وترددي في معاقرتها، واستمرت العلاقة بيننا بين مد وجزر لعدة سنوات مع التزام صارم بالقراءة كمتعة حياتية لا يمكن الاستغناء عنها، ثم حدثت عدة منعرجات في حياتي فتغيرت حتى رؤيتي الأزلية اتجاه فعل القراءة، وصرت أراها كنوع من الترف، استمرت هذه الحالة خمسة أعوام من الفراق المبين، لم أطالع غير الصحف الرياضية، ثم عدت بعدها لقراءة رواية أثارت ضجة وقت صدورها، وفور انتهائي من مطالعتها انتابني إحساس بأنني أستطيع أن أكتب أفضل من هذه الكتابة، ومن هنا كانت البداية المتتبع لرواياتك وقصصك، يتضح له مدى انشغالك بالأصالة في المُنجز الأدبي، في اقتحامك للمجهول والغامض، وعدم امتثالك للأنماط الكتابية الجامدة، ونهجك لأساليب وطرق كتابية متباينة، فأنت في "روحسَد" تكتب بأسلوب وواقعية تختلف عنها في "بلاد السين" المُغرقة في التخييل والتعقيد على سبيل المثال. أم أنك في المقابل تبحث عن أسلوبك الخاص؟ وهل وجدته؟ أم أنك تتقصد مثل هذه التجريب والمغامرات الكتابية؟ يقال أن أسلوب الكاتب دلالة على النضج، واستواء مشروعه على سوقه، هذه مقولة تقبل الأخذ والرد، الكتابة عندي مغامرة لا تركن لقاعدة معينة، أشبه بقيادة سيارة في طريق ملئ بالمنحنيات، عند كل منحنى أتفاجأ كما يتفاجأ القارئ وهذا مصدر متعتي في الكتابة ولا أنوي التنازل عنه مقابل الالتزام بأسلوب معين، على الأقل حتى الآن. تقول عن "بلاد السين" أنها مراوِغة. هل تتقصد التعقيد والغموض والغرائبية، أم هي أشياء تفرض ذاتها على النص الأدبي، أم هي محاولات لبذر التشويق لدى القارئ وإقحامه في محاولة تفكيك الأحداث وبالتالي جعل العمل أكثر إثارة، أم ماذا؟ بلاد السين تقع ضمن رواية القضية، مع إسقاط رمزي كثيف، وشرط توفير المتعة للقارئ كما هو معتاد، وهذا جعل من كتابتها أقرب للمعادلات الرياضية في أحايين كثيرة، فالرمز الآني للحدث يفرض عليك الكتابة عن رمز آخر في حدث آخر، وهذا يفرض على القارئ الإمساك بدلالات الرمز جيداً كلما توغل في القراءة، وفي حالة انفلات رمز ما منه قد يشعر بالتوهان ويضطر للعودة عدة صفحات وهذا يجعل من الكتابة والقراءة فعل مراوغة، وهي العمل الوحيد الذي اضطررت لإعادة كتابته لثلاثة مرات. تُكثر من روح الفكاهة والسخرية في أعمالك الأخيرة، هل علينا ألا نحمل هذا العالم على مَحمل الجد كما يقول كونديرا؟ ماذا تريد أن تقول؟ ليس دائماً، أنا أخوض المغامرة كاملة بجميع تفاصيلها، فلو استدعى الأمر الضحك فلنضحك معاً أنا والقارئ، وان استدعى البكاء فليبكي القارئ أنا لا أبكي عادة (أمزح بالطبع) الحياة تحمل على محمل الجد خاصة بالنسبة للكاتب، فالكتابة فعل مغرق في الجدية، وهي تشبث بالحياة وبحث عن الخلود ومواجهة للموت فكيف لكل هذا أن لا يكون فعلاً جدياً؟ ماذا عن اختلاق شخصياتك في العمل الروائي أو القصصي، هل تستند أحياناً لشخصيات واقعية ومن ثم تجري عليها عليات تطوير وتخييل؟ وبالطبع هناك شخصيات خيالية بحتة؟ نعم في أحيان نادرة استعنت بشخوص من أرض الواقع ففي روحسد كان ثلاث من الشخصيات الرئيسية شخصيات حقيقية تتحرك في فضاء تخيلي بحت ولكن الرواية عندي رواية حدث فالحدث هو من يشكل الشخصية ويوضح ملامحها عبر أفعالها وردود أفعالها. ما مدى تأثير شخصياتك عليك أثناء العملية الكتابية، وهل تكون واعٍ بسلوكياتها ودوافعها أثناء الكتابة، أم يتطور هذا السلوك بحسب مجريات الأحداث؟ هل تكون واعياً بهذا التطور فعلاً أم تفرضه عليك أحياناً منعطفات مفاجئة في القصة؟ أذكر أثناء كتابة تاسوع الخليل الأخير وهي الأثيرة لدي رغم أنها لم تنشر بعد، حزنت لمصير جابر، رغم أنه لم يكن الشخصية الرئيسية في الرواية وكان دوره داعماً للحدث، تعاملت مع مصيره كما يتعامل القارئ، لماذا وكيف وما هي العلة، الشخوص في مخيلتي لهم كامل الحرية في فعل ما يريدون وهم من يتحملون مسئولية أفعالهم، ما يهمني حقاً هو مناقشة الأسئلة التي تؤرقني وبث الرسائل التي قد أرغب في إيصالها، لهم مطلق الحرية في اختيار الطريقة المناسبة لإيصالها للقارئ، وتحدث القطيعة بيني وبينهم فور انتهائي من كتابة العمل ويبقى ضجيجهم مثل الوشم على الذاكرة، وقد أحن وأشتاق إليهم في أحايين كثيرة كأشخاص حقيقيين، ولكنهم يصرون على البقاء ضمن فضاء نصوصهم المكتوبة ولا يعودن مرة أخرى. (الكتب ليست هي الثقافة، فالثقافة تختفي في التفاصيل الصغيرة للحياة الحقيقية)، هذه مقولة قلتها من قبل، نعم واضحة، لكن ماذا عن تفاصيلها وأثرها عليك ككاتب؟ الكتب ليست المصدر الوحيد للثقافة، أذكر أثناء فترة المقاطعة التي أعلنتها على القراءة، عشت الحياة على حقيقتها كفاحاً، جلست إلى أولئك الذين يحتفون بالأنس، ويبحثون عن الضحك والعبرة في الأحاديث العابرة، المقاهي والأندية، لاعبي الورق والدومينو، الحلاقين والسباكين والعمال، الأفاقين والحالمين، الحكماء الذين نظنهم سذج، السياسيين وبائعي الأوهام, الصادقين لدرجة الإيلام، ملح الأرض ونبض الحياة الحقيقية، كنت أقلب نظري في وجوههم كما أقلب صفحات الكتب، أستمع إلى أحاديثهم وهمومهم، وفلسفتهم العظيمة في معاقرة الحياة والنجاة منها فأعجب، من هؤلاء استقيت أكبر مصدر للمعرفة الحقيقية، للكتب أهميتها لا جدال في ذلك، لكن حراك الحياة اليومي أولى بالاطلاع، كأنه الفرق بين التطبيق والدراسة النظرية، هما مكملان لبعضهما ولا غنى لأحدهما عن الآخر كيف تعيد النظر للشكل النهائي للعمل من خلال المسودة الأولى؟ وهل يكون للشكل النهائي أحياناً عدد من المسودات؟ كيف إذن تبلغ مرحلة الرضا؟ انا القارئ الأول للمسودة، وهنا أقوم بفعل التعديل والحذف المبدئي، وبعد الانتهاء منها يتم النقاش حولها في دائرة ضيقة، من الأصدقاء الثقاة، وشرط الصراحة هنا مطلوب وقد يحتد النقاش بيننا كي نصل إلى نقاط مشتركة، وهذا يحدث بحثاً عن الرضا، ولكني مؤمن أن العمل لو ظل بين يدي الكاتب لمائة عام لظل يعدل عليه ويرى جوانب تحتاج للمزيد من العمل، لا رضا ولكن تسليم، والفرق بينهما كبير لمن تكتب؟ أكتب لإسكات ضجيج هؤلاء الذين يقطنون بين تلافيف خلاياي الرمادية ولا يدفعون الإيجار، أسعى لطردهم بحكم نافذ عبر عملية التدوين، ولكن ما أن يغادروا حتى يأتي آخرون بقضهم وقضيضهم ليقطنوا ذات الخلايا بفوضاهم ومشاكلهم لتدور الدائرة من جديد. أكتب أيضاً لأجل أسرتي الصغيرة لأصدقائي القلة ثم أكتب لهذا العالم الذي يطالع الكتب ولا يقرأ. يقولون أنه بطريقةٍ أو بأخرى، لا بد من وجود انعكاس ظل الكاتب ولو بصورة جزئية في احدى شخوصه، أو ظله متمدداً في عدد من الشخوص. عن محمد الطيب الشخص والكاتب ماذا تقول؟ وهل تفصل أحاسيسك الخاصة كشخص لحظة الكتابة عن فيضان الأحاسيس المتباينة لشخوصك؟ لا ينفصل الكاتب عن شخوصه، ربما تجدني متشظياً في عدد من شخصياتي من دون قرارا مسبق، ولكني لم أتعمد أن ينسكب شيء من فنجاني فيصبغ النصوص بصبغتي، عموماً تجريد النص بدلاً من البحث عن الكاتب بين أضابيره يحرر العمل من قيود كثيرة ويجعله أكثر انطلاقاً وأوسع إسقاطاً في رأيك، ما هي القيمة الفعلية للجوائز الأدبية ومدى تأثيرها على الكاتب، باعتبارك أحد الفائزين بجائزة الطيب صالح/ مركز عبد الكريم ميرغني عن رواية (بلاد السين/ الأم الرؤوم)؟ أنا أؤمن بالمشروع، الجوائز قد تعطيك دفعة إلى الأمام، ولكن الاستمرارية تستدعي جهداً ومثابرة وعزم لا يلين، أفخر باقتران اسمي بجائزة تحمل اسم الطيب صالح، وتصدر عن مركز محترم مثل مركز عبد الكريم ميرغني ولكن الطريق ما يزال طويلاً ويخبئ الكثير الذي قد يعيقني أو يدفعني للأمام. مع التزاماتك العائلية والعملية، وعدم تفرغك التام للكتابة، ومن خلال منجزاتك الأدبية القيمة خلال فترات زمنية متقاربة، لا شك أنك تفرض على نفسك نمطاً كتابياً صارماً، ربما هذه سانحة للحديث عن أجواء الكتابة وطقوسها عندك ربما في البداية فقط، كنت أهيئ جوا معيناً للكتابة، ولكن الفعل الآن صار أكثر سيطرة من الطقوس، أنا أكتب حين أجد فرصة لذلك، والفرصة تعني جهاز الحاسوب فقط، ربما بين أوقات العمل، أو في آخر الليل وعز الظهيرة برفقة القهوة أو بدونها، عندما يعلو الضجيج لا أملك سوى الاستسلام. هل النشر خارج السودان يخصم من شعبية الكاتب ببلده؟ وخلق علاقات مع كتاب الوسط؟ أنت مثلاً، نشرت من قبل "الحبل السري" وبعدها "روحسد" خارجيا، لكن ألا تتفق معي أن الأخيرة هذه بالذات التفت إليها القراء والنقاد، بل حتى التفتوا إليك ككاتب بعد حصولك على جائزة الطيب صالح عبر رواية "بلاد السين"؟ هذا إذا استثنينا بعض القلة الذين يعرفونك من قبل ككاتب؟ المشكلة موجودة نعم، فخيار النشر بعيداً عن موطنك يعد فعلاً إقصائي خاصة في وسط يحمل إيجو عالي مثل مجتمع المثقفين في السودان، جائزة الطيب صالح سلطت الضوء على أعمالي السابقة ولكن يظل الحراك النقدي كسولاً اتجاه الأعمال المنشورة، بلاد السين التي تلقفها القارئ برحابة لم يكتب عنها مقال نقدي إلا المقال الذي أصدرته لجنة الجائزة، تلعب المعارف هنا والصلات الشخصية دوراً أساسياً كما يعلم الجميع ويغض الطرف. تقول أن كتابة القصة القصيرة أكثر صعوبة من كتابة الرواية، كيف؟ القصة القصيرة مكثفة، تعتمد على الومضة وإبرازها، وهنا تحدث عملية إبطاء للزمن تجعل من الكتابة فعلاً مجهداً بعكس الرواية التي يتم البناء فيها حول الومضة وانتظار هبات الكتابة نفسها في منعرجاتها الكثيرة، وهذا يجعلني أرى كتابة الرواية أكثر إمتاعا وسهولة رغم أنها تقتضي جهداً بدنياً أعلى وساعات كتابة أكثر بكثير. رغم كتابتك للكثير من القصص القصيرة، ورغم إمكانية النشر، لم نرَ أي مجموعة رغم ذلك كتبت القصة القصيرة من أجل التسلية فقط، هي بالنسبة لي عمل أكثر خصوصية لا يشترط النشر أو ربما لم يستوف شروط النشر كما أراها ولكن لم يفقد متعة معاقرتها من حين لآخر باختصار، ماذا أردت أن تقول عبر قصتك "دورة حياة صائد الجوائز"؟ صدقني قلت كل ما أرغب في قوله في دورة حياة صائد الجوائز ولا يوجد المزيد لقوله بعد ذلك، أظنها تحدثت بلسان فصيح وباحت بكل خباياها ولم يبق المزيد لإيضاحه كلمة أخيرة لم أقل شيئاً بعد!
مشاركة :