ليس بمقدور البنوك المركزية الاحتفاظ باستقلاليتها إلا إذا التزمت بعدم النزول على أي رغبة من جانب الحكومة في تسييل ديونها المفرطة، وبذلك تضطر السلطات إلى تقليص الإنفاق أو زيادة الضرائب، أو كليهما ـ أو ما يعرف باسم الضبط المالي. وأحد الأسئلة المهمة بالنسبة إلى السياسة هو ما الذي يحدد الفائز في أي منافسة على الهيمنة بين سياسة المالية العامة والسياسة النقدية. ولا يكفي لضمان هيمنة السياسة النقدية مجرد وجود ضمانات قانونية لاستقلالية البنوك المركزية. فالهيئات التشريعية يمكن أن تهدد بتغيير القوانين، كما يمكن تجاهل المعاهدات الدولية، ما قد يحدو بالبنوك المركزية إلى الإحجام عن سياستها المفضلة. ولتعزيز هيمنة السياسة النقدية، يتعين على البنوك المركزية أن تحافظ على مستوى جيد من الرسملة، لأنها إذا طلبت عمليات إعادة رسملة متكررة من الحكومة، فستبدو ضعيفة، وتخاطر بخسارة التأييد العام. والبنوك المركزية ذات الميزانيات العمومية الكبيرة التي تحتوي على قدر كبير من الأصول ذات المخاطر وتدفع فوائد على الاحتياطيات للبنوك الخاصة، قد تتكبد خسائر كبيرة في حالة رفع أسعار الفائدة. ويمكن أن تتسبب هذه الخسائر في زيادة الضغوط من السلطات المالية لكي تمتنع عن رفع أسعار الفائدة. ويتعين على البنك المركزي أن يحافظ على انحياز الرأي العام له، لأن المواطنين هم المصدر الأساس لقوته واستقلاليته، ويعني هذا أن عليه الإفصاح بكفاءة عن الأساس المنطقي لإجراءاته بغية الحفاظ على التأييد العام، ولا سيما في مواجهة التضخم الناتج عن سياسة المالية العامة. فحفاظ البنك المركزي على هيمنة سياسته النقدية يرتهن، في نهاية المطاف، بقدرته على أن يعد على نحو موثوق بأنه لن يقوم بعمليات إنقاذ للحكومة عن طريق تسييل الدين العام في حالة تعثرها في السداد. وتواجه البنوك المركزية تحديات جديدة في التفاعل بين الاستقرار النقدي والمالي. وهي تعمل حاليا في بيئة تتسم بارتفاع حجم الدين الخاص، وانخفاض علاوات المخاطر على الأصول المالية، وتشوه إشارات الأسعار، واعتماد القطاع الخاص الكبير على السيولة التي يوفرها البنك المركزي في الأزمات. والفرق الرئيس بين فترة ما بعد أزمة 2008 والوضع الحالي هو الارتفاع المفرط في معدلات التضخم. فمنذ عقد ونصف العقد، كان هناك تزامن بين الهدف المزدوج للبنوك المركزية المتمثل في تحفيز النشاط الاقتصادي وتحقيق الاستقرار المالي باستخدام سياسات غير تقليدية. واليوم، توجد مفاضلات واضحة بين إدارة التضخم وتحقيق الاستقرار المالي، لأن الارتفاع الكبير في أسعار الفائدة لمواجهة التضخم يهدد بزعزعة استقرار الأسواق المالية. ففي أعقاب الأزمة العالمية، واجهت البنوك المركزية مشكلة مزدوجة تمثلت في ضعف الطلب وعدم الاستقرار المالي وتعهدت بعمل "كل ما يتطلبه الأمر" لمعالجة كليهما. وفور استنفاد الدفعة التحفيزية التقليدية من خلال أسعار الفائدة، تحولت البنوك المركزية إلى استخدام برامج التيسير الكمي غير التقليدية، التي اشترت بموجبها كما كبيرا من الأصول ذات المخاطر من القطاع الخاص، على أمل أن تعطي دفعة لأنشطة الإقراض والقطاع العيني من خلال ما تحققه هذه البرامج من تراجع في فروق أسعار الائتمان. وإضافة إلى ذلك، مكنت هذه البرامج البنوك المركزية من الاضطلاع بدور مهم جديد بوصفها صانع سوق الملاذ الأخير، حيث تشتري الأوراق المالية عندما تحجم كل الأطراف الأخرى عن شرائها. فهناك دائما مفاضلات بين هدفي استقرار الأسعار والاستقرار المالي ـ حتى إن لم يظهر هذا التجاذب إلا على المدى الطويل.. يتبع.
مشاركة :