بتحليل حالات التضخم التي حدثت في سبعينيات القرن الماضي، كان أحد الدروس الرئيسة المستفادة هو أن قرارات السياسة النقدية يجب أن تكون بمنأى عن التدخل السياسي. وقد أدى هذا الدرس، في الواقع، إلى تعزيز الاستقلالية القانونية للبنك المركزي في عديد من مناطق الاختصاص ـ خاصة في اللوائح الداخلية التي تضمن عدم إنهاء خدمات مسؤولي البنك المركزي إلا في حالة ارتكاب مخالفة. وتتعزز هذه الاستقلالية من خلال تحديد مدد عضوية متداخلة لأعضاء لجنة السياسة النقدية، وتعيين كل عضو لفترة واحدة غير قابلة للتجديد، وضمان أن تكون عملية التعيين منهجية وشفافة بدلا من الاعتماد على تقدير مسؤول حكومي واحد. وحول الإفصاح الفاعل فإنه ينبغي ألا يكون أعضاء لجنة السياسة النقدية مرغمين على التحدث بصوت واحد في سياق الإفصاح العام، بل يجب أن يكونوا مسؤولين عن نقل وجهات نظرهم الفردية فيما يتعلق بالأحكام المعقدة التي قد يختلف بشأنها الخبراء العقلانيون. ولتجنب تضارب الأصوات، ينبغي للجنة السياسة النقدية أن تتبع الممارسة النموذجية في النظام القضائي، حيث يقوم فريق القضاة بإعلان كل قرار من خلال حكم بالأغلبية مشفوع بالآراء المؤيدة والمعارضة. ولهذا المنهج تاريخ طويل في توفير ما يلزم من وضوح بشأن الأساس الذي استند إليه قرار الأغلبية، إضافة إلى المنطق الذي تستند إليه الآراء البديلة. وبالمثل فإن هذا الأسلوب في الإفصاح عن قرارات السياسة النقدية يمكن أن يعزز من ثقة الجمهور بأن القرارات يتخذها فريق متنوع من الخبراء. وينبغي ألا يقتصر تركيز لجنة السياسة النقدية على وصف ملامح آفاق السيناريو الأساسي. فالمخططات النقطية توضح نطاق الآراء حول السيناريو الأساسي، غير أنها لا تقدم معلومات بشأن المخاطر. وتوفر الرسوم البيانية المريحة صورة مرئية لحالة عدم اليقين المحيطة بآفاق السيناريو الأساسي، غير أنها لا توفر أي معلومات حول المخاطر التي يعتقد أنها المخاطر الأكثر أهمية. وبالتالي، تحتاج لجنة السياسة النقدية في مداولاتها وإفصاحها بشأن السياسة إلى تحليل السيناريو والتخطيط للطوارئ. وبصفة خاصة، يجب على صناع السياسات تحديد المخاطر الجوهرية، والنظر في إجراءات السياسة التي يمكن أن تخفف من حدة هذه المخاطر أو تلك التي يرجح اتخاذها إذا تحقق هذا السيناريو. ويعد هذا المنهج موازيا لاختبارات القدرة على تحمل الضغوط التي تجريها حاليا أجهزة التنظيم المصرفي في عديد من مناطق الاختصاص. والواقع أن لجنة السياسة النقدية ينبغي أن تنخرط في اختبار قدرة السياسة النقدية على تحمل الضغوط. وللسياسة النقدية آثار مباشرة في الجميع تقريبا، ومن ذلك، مثلا، تكلفة السلع والخدمات التي يدفع قيمتها المستهلكون، وفرص العمل وأجور العمال ومعدل العائد على مدخرات المتقاعدين. وبناء عليه، لا يكفي أن يتواصل صناع السياسات باستخدام مصطلحات فنية مع جمهور محدود من المشاركين في السوق المالية، بل يحتاجون إلى مجموعة من أدوات التواصل لتفسير قرارات السياسة تلك للأسر العادية ومؤسسات الأعمال. وبشأن انعكاسات أوسع نطاقا تؤكد هذه الاعتبارات أهمية إصلاحات الحوكمة للتأكد من أن السياسة النقدية يحددها فريق متنوع من الخبراء المتفرغين ذوي المسؤولية المشتركة عن اتخاذ تلك القرارات. وينبغي أيضا إدراج هذه الترتيبات في الجوانب الأخرى لعمل البنوك المركزية، بما في ذلك لوائح السلامة الاحترازية الكلية وتقديم السيولة الطارئة والإشراف على نظم الدفع. ومن شأن تنفيذ هذه الإصلاحات مواءمة حوكمة البنك المركزي مع أفضل الممارسات الدولية للوكالات العامة والمؤسسات الخاصة. لا يكفي أن يتواصل صناع السياسات باستخدام مصطلحات فنية مع جمهور محدود من المشاركين في السوق المالية، بل يحتاجون إلى مجموعة من أدوات التواصل لتفسير قرارات السياسة تلك. وقد سلطت التجربة الأخيرة الضوء على أخطار التفكير الجماعي، الذي يمكن أن يؤدي إلى تحولات مفاجئة في السياسة تقوض من مصداقية البنك المركزي وتضعف فاعلية السياسة النقدية. وستكون إصلاحات الحوكمة بالغة الأهمية لضمان فاعلية صنع السياسة النقدية في مواجهة التحديات المعقدة والمتطورة الحتمية خلال الأعوام والعقود المقبلة.
مشاركة :