التعليم الجامعي في أميركا (1 من 2)

  • 2/9/2016
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

كما جاء في سبع مقالات متتالية، تم نشر الأولى منها في هذا الحيز في 16/11/2015، والسابعة والأخيرة في 28/12/2015، وصلت إلى أميركا للدراسة الجامعية في 7 تشرين الأول (أكتوبر) من عام 1965، بعد التخرج من الثانوية في صيف 1965. وبدأت كما يبدأ أمثالي من غالبية المبتعثين السعوديين، بدراسة اللغة الإنكليزية. وكانت المنحة الدراسية، أو الابتعاث لدراسة الهندسة المعمارية. وفي صيف 1966 بدأت الدراسة الجامعية مع الطلاب الأميركيين. ولكنني وجدت أنه قبل أن أخذ «كورساً» واحداً في الهندسة المعمارية، لا بد أن أنهي دراسة مواد مشتركة يدرسها جميع الطلاب بصرف النظر عن التخصص الذي يتخصصون فيه. فمطلوب من كل طالب دراسة «كورسين» أو ثلاثة من العلوم الاجتماعية كالتاريخ، والعلوم السياسية، وعلم الاجتماع، أو علم نشأة الإنسان، و «كورسين» أو ثلاثة في العلوم كالفيزياء والكيمياء، والأحياء، والجيولوجيا، أو الرياضيات، والإحصاء. ومعظم هذه المتطلبات عن مبادئ عامة لا يتعذر فهمها على كل طالب جامعي. فمستوى «كورس» الكيمياء المطلوب لمن يتخصص بعلم الكيمياء، أو أحد فروع الهندسة، ليس مثل مستوى «كورس» مبادئ الكيمياء لمن سيتخصصون في أحد فروع العلوم الاجتماعية، أو الأدب أو دراسة لغة أجنبية. وللوفاء بهذه المتطلبات بدأت بأخذ «كورس» واحد في علم الاقتصاد في جامعة كولورادو في صيف 1966. «وكورسات» الصيف مركزة تكون يومياً لمدة خمسة أو ستة أسابيع. والأستاذ، في أي علم لم يسبق للطالب دراسته، إما أن يكون جاذباً أو منفراً. ويشهد الله أن ذلك الأستاذ كان محاضراً موهوباً استحوذ على انتباه غالبية الطلاب مع أن عددهم في ذلك المدرج زاد على 300 طالب. أنهيت أول «كورس» في مبادئ علم الاقتصاد الكلي بنجاح محدود لأسباب كثيرة ليس أقلها لأنني كنت أتنافس مع طلاب تعودوا على النظام التعليمي الأميركي نفسه، الذي ترتكز أنظمة امتحاناته على اختيار الجواب الصحيح من بين أربعة أو خمسة اختيارات. أو النفي أو الموافقة على ما جاء في عبارة لها علاقة بالمادة المدروسة. والذي تعود عليه أبناء جيلي في مراحل التعليم العام هو كتابة الجواب كاملاً أو كتابة كل الخطوات لحل مسألة حسابية. إضافة بالطبع إلى أنني كنت مبتدئاً بدراسة أي مادة بالإنكليزية. والدراسة الجامعية في أميركا، كما يعرف كل من درس في جامعاتها، في الستينات والسبعينات، تجربة متكاملة وليست مجرد أخذ «كورسات» تتخللها امتحانات معلنة مسبقاً، وغير معلنة أحياناً، وإنما تجربة كاملة تتكون من بين مكوناتها بدراسة مواد في جميع فروع المعرفة قبل التخصص. وربما درّس هذه المواد أساتذة موهوبون، وربما درّسها أساتذة مملّون من ثقلاء «الطينة» أو «الدم». ولا بد أيضاً من التعامل مع الزملاء الطلاب الذين يأتون من طبقات مختلفة بقيم اجتماعية تعكس اختلاف البيئات التي ترعرعوا فيها. ولا بد من التعامل مع موظفي الجامعة، واختلافهم لا يقل عن اختلاف أي فئة أخرى من الناس. ولكن، يتصف المجتمع الجامعي الأميركي إجمالاً، على الأقل قبل 40 أو 50 عاماً، بأنه مجتمع مرحب لا منفر، وهذا هو سبب بقاء كثير من الطلاب الأجانب، خصوصاً من الدول الفقيرة، في أميركا والحصول على الجنسية إذا أمكنهم ذلك بعد التخرج. وعلى رغم أنني لم أحصل على درجة ممتازة في أول «كورس» في علم الاقتصاد، فإنني صرت شغوفاً بمعرفة كل ما يمكن معرفته من هذا العلم، الذي أسسه الفيلسوف الأسكتلندي آدم سميث في سنة إعلان استقلال الولايات الأميركية الـ13، في عام 1776. وكان أكبر حجر عثرة واجهني في طريقي للإلمام بأساسيات علم الاقتصاد، أنني لم أبعث لدراسة الاقتصاد، وإنما لدراسة الهندسة المعمارية. وبعد محاولات عدة اقتنع أستاذنا المميز، الملحق الثقافي في أميركا، الأستاذ الكبير قدراً وسناً عبدالعزيز بن محمد المنقور، ألبسه الله ثوب الصحة، بمساعدتي في إقناع مسؤولي وزارة المعارف بالسماح لي بدراسة علم الاقتصاد. فحاولت في البدء إكمال المطلوبات العامة من العلوم الطبيعية المطلوبة من جميع الطلاب بصرف النظر عما يريدون التخصص فيه. فأخذت «كورساً» في الكيمياء، و «كورساً» في الجيولوجيا، إضافة إلى «كورسات» في الاقتصاد، وعلم الاجتماع، والتاريخ، والعلوم السياسية، وعلم نشأة الإنسان. وتحاشيت مادة الأحياء لأنني لا أستطيع «الرسم» بطريقة مقبولة. وكنت أسكن في سكن للطلاب يتكون من عمارتين ضخمتين، إحداهما للإناث والأخرى للذكور. والمشترك بين الذكور والإناث صالة الطعام وحافلات الجامعة، إضافة إلى الفصول الدراسية بالطبع. وفي الأيام التي سبقت اندلاع حرب صيف 1967 كنت أقول ليلياً للعشرات الذين يتحلقون حولي على طاولة الطعام من الطلاب الأميركيين، إنه يجب عليهم إقناع أصدقائهم الإسرائيليين قبل أن تزحف إليهم جحافل الجيوش العربية، وتحرر أرض فلسطين ممن احتلوها. وخلال ثلاثة أيام من اندلاع الحرب، عرفت الحقيقة المؤلمة ومدى نجاح إعلام محمد حسنين هيكل في تضليلنا. وفقدت «ماء وجهي» وكان لا بد لي من الانتقال من جامعة كولورادو وفراق بلدة بولدر الجميلة التي أحببت، وما زلت أحب وأعتبرها من أجمل البلدات الجامعية، إن لم تكن من أجمل بلدات العالم أجمع، التي لا يتجاوز عدد سكانها 60 ألفاً، وربما وصل حالياً إلى أقل من مئتي ألف.   وللحديث بقية     * أكاديمي سعودي

مشاركة :