التعليم الجامعي في أميركا (2 من 2)

  • 2/16/2016
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

ذكرت في الأسبوع الماضي (9-2-2016) إنني بدأت الدراسة في جامعة كولورادو في بولدر. وهي جامعة حكومية يمولها سكان ولاية كولورادو. ويقع حرمها الجميل الذي تتخلله قنوات المياه الصغيرة في بلدة بولدر التي تقع في ظل جبلين شاهقين تغطيهما الثلوج في معظم أشهر السنة وتكسوها السحب الممطرة غالباً بعد ظهر أيام أشهر الصيف، وسبق أن وصفها الرئيس الأميركي جونسون بـ «أجمل» بلدة في العالم. ثم ذكرت، أن كارثة 1967، أفقدتني صوابي، وأخجلتني أمام كل من عرفت من أساتذة وطلاب، وبخاصة زملائي في سكن الطلاب الذين كان عددهم يزيد على 600 طالب، اضطرني إلى البحث عن جامعة أخرى لا يعرفني فيها أحد. فذهبت إلى جامعة ولاية أوكلاهما التي يقع حرمها في منطقة ريفية نائية، لم يهبها الله شيئاً من جمال الطبيعة. فغادرتها لأستقر في جامعة ولاية أريزونا في بلدة «تمبى» إحدى ضواحي مدينة «فينكس». وفي مستهل عام 1968 أخذت «كورساً» متقدماً نسبياً بمسمى «الاقتصاد السوفياتي». وكان يدرّسه الدكتور «تاد جاكسون» الذي حصل على الدكتوراه من جامعة كولورادو والتي اضطررت إلى مغادرتها. والدكتور «جاكسون» يطلب قراءة ما لا يقل عن 20 صفحة أسبوعياً، إضافة إلى أنه قضى نحو شهر في شرح أهم عناصر «نظرية الأثمان» لتكون هي أداة القياس لكل ما ذُكِر عن الاقتصاد السوفياتي. وكان جوابه لمن يشتكون من علاقة نظرية الأثمان باقتصاد الاتحاد السوفياتي بأن «هذا كورس في الاقتصاد وليس السياسة». ذلك الكورس زرع في كياني الذهني حقيقتين على الأقل. أولهما: أن أهم سلاح من الأدوات التحليلية يمكن توظيفه لفهم شيء في علم الاقتصاد هي نظرية الأثمان. ثانيهما: أن «التخطيط المركزي» وسيلة عقيمة لن تحقق تقدماً حقيقياً يرفع مستوى معيشة غالبية الناس. ويستحيل تنفيذ التخطيط المركزي في أي مجتمع يتمتع أبناؤه بدرجة من درجات الحريات الشخصية. دع عنك حرية المعتقد. ومن الأمثلة التي لن أنساها عن الاقتصاد السوفياتي مثلان، أحدهما يتعلق بإنتاج عدد من الأحذية والآخر بإنتاج «مراوح» السقف الكهربائية. قرر «الرفاق» في موسكو إنتاج عدد كبير من الأحذية. ولكن «الرفيق» مدير المصنع وجد من الأسهل صناعة كل الأحذية للقدم اليمنى؛ لأن الذي يحــدد مكافآتـه وقدره في سلم الحزب هو الكمية، ولو كانت لقدم واحدة، أي عدد الأحذية لا ملاءمتها للاستخدام. أما الرفيق الآخر مدير مصنع إنتاج المراوح الكهربائية فيعرف مسبقاً بأنه سيحدد ما له من مكانة مادية أو معنوية، بما فيها «البونيس» السنوي وزن ما ينتج لا نوعه أو حتى عدده. فصار مصنعه ينتج مراوح أقل، لكن أكثر وزناً حتى أدى تعليقها في السقف إلى انهيار أسقف آلاف الشقق. وإضافة إلى كورسات إضافية في النظرية الاقتصادية، هناك كورسات أخرى كانت مطلوبة في مواد أخرى، كالرياضيات والمحاسبة ومبادئ الإحصاء الوصفي، وكورسات اللغة المخصصة لأبنائها. وربما كانت كورسات اللغة التي تركز على القراءة المستفيضة وكتابة ملخصات ما تم طلب قراءته، من أهم أدوات تسليح الطلاب للعمل الميداني أياً كان نوعه أو لمواصلة الدراسات العليا أياً كان مجالها. إن الهدف من التعليم الجامعي في أميركا، وأظن في كندا، ليس تعليم الطالب مهنة أو حرفة، وإنما تعليم طريقة التفكير المنطقي المجرد. فمن يتخرج لتوه من قسم الهندسة المدنية، مثلاً، إذا كان ألمَّ فعلاً بجوهر ما درس، فلن يستطيع تصميم طريق أو جسر أو نفق، ولكنه سيعرف أين وكيف يبحث وبمن يستعين ممن سبقوه. وكثيراً ما يخلط الناس بين الهدف من التدريب الذي يهدف إلى إجادة مهنة أو حرفة فنية كتمديد كايبل، أو تلحيم الأنابيب، وبين التعليم الجامعي، الذي يهدف إلى تعليم كيفية التفكير. وجميع المبتدئين للتعليم الجامعي في أميركا، من غير الأميركيين بالطبع، يستغربون لماذا يُلزم طالب الهندسة أو الأحياء أو الكيمياء أو حتى الرياضيات على دراسة ثلاثة إلى خمسة كورسات، في العلوم الاجتماعية، و«علم الكتابة». أو لماذا يجد طالب التاريخ أو علم الاجتماع أو المحاسبة نفسه أو نفسها مضطراً إلى أخذ ما بين ثلاثة وخمسة كورسات في العلوم الطبيعية. والأرجح حالياً أن دروساً من مبادئ تعاطي الكومبيوتر والأجهزة الإلكترونية، صارت مطلوبة، إضافة إلى تعليم وسائل التواصل اللغوية المعتادة. وفي نهاية المطاف تخرجت من جامعة ولاية أريزونا بمتوسط ممتاز، بسهولة نسبية. وهل هذا يعني أن النظرة الشمولية، من دون تعمق وتفاصيل إلى شجرة غابة المعرفة من دون التركيز فقط على شجرة من أشجارها، كما يحدث في شمال أميركا، أصعب أو أسهل من التعليم الجامعي في بقية دول المعمورة؟ والجواب، بإيجاز، ليس أصعب أو أسهل، لا بالنسبة إلى التعليم الجامعي أو حتى الثانوي في بقية دول العالم. أما الدراسات العليا في أميركا، فقصة أخرى، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.   * أكاديمي سعودي.   التعليم الجامعي في أميركا (1 من 2)

مشاركة :