قبل موته بعشر سنوات تقريباً، وفي وقت كان السل بدأ ينخر جسده نخراً، بالتزامن مع تصاعد شهرته كواحد من كبار المجددين في المسرح الاجتماعي وفي الأدب الروسي عموماً، كتب انطون تشيكوف ونشر نصاً عنوانه «القسيس الأسود» نُظر اليه أول الأمر على انه رواية قصيرة من النوع الذي اعتاد صاحب «الخال فانيا» و «الشقيقات الثلاث» كتابته في أوقات فراغه، في ذلك الحين. ولكن بعد ذلك وفي شكل تدريجي، راح النقاد والباحثون ينظرون الى «القسيس الأسود» نظرة مختلفة، لينتهي بهم الأمر، عند وفاة تشيكوف في العام 1904، الى اعتبار هذا النص أشبه بوصية فكرية - انسانية، صاغها الكاتب محمّلاً اياها افكاره الحقيقية وهواجسه، وبخاصة نظرته الى العلاقة بين الروح والجسد، وبين الايمان والواقعية... ثم بين الحقيقة والخيال، وصولاً الى العلاقة بين العقل والجنون في نهاية المطاف. ومنذ ذلك الحين، لم تتبدل النظرة الى أدب تشيكوف على ضوء ذلك النص، فقط، بل تبدلت كذلك النظرة الى سيرة حياته. وكأن نصّ «القسيس الأسود» عرّاه فجأة تماماً ونزع عنه كل أقنعته. > ومع هذا ظل عالم الأدب ينظر الى كتاب «القسيس الأسود» على انه رواية، ذلك ان هذا النص يحمل - خارج إطار ارتباطه الوثيق والذاتي بكاتبه - كل عناصر العمل الروائي. والعمل الروائي الفكري على وجه التحديد، ما يقرّبه - من ناحية الأسلوب، لا من ناحية الفكر والمضمون على أية حال - من أدب كبار الروائيين الروس، من غوغول الى دوستويفسكي فتولستوي، معطياً هذا النص مكانة فريدة في أدب تشيكوف، الذي هو - أساساً - أدب مسرحي وأدب قصة قصيرة. ومن اللافت هنا أن نذكر أن كثراً من النقاد باتوا، إثر موت تشيكوف ينظرون الى «القسيس الأسود» على أنها، بالنسبة إليهم، من أكثر نصوص تشيكوف نمطية وتعبيراً عن فكره وتوجهاته التأملية. > تدور أحداث هذه الرواية - التي سيتعارف كثر من مؤرخي حياة هذا الكاتب ودارسي أدبه على انها أشبه ما نكون بوصية -، حول استاذ يدعى كوفرين، يقرر اذ يصاب بمرض عصبي - بسيط أول الأمر -، ان يمضي بضعة شهور في الريف، ضيفاً على صديق قديم له يعيش الآن في أحضان الطبيعة مع ابنته الصبية الحسناء ويمارس الزراعة بعيداً من صخب المدينة وتعقد حياتها. وهكذا يصل كوفرين الى منزل صديقه ليرتاح لديه. بيد ان البروفسور كوفرين، الذي كان طوال الفترة الماضية من وجوده دأب على التحدث عن قسيس أسود، هو في مخيال عام بطل الكثير من الأساطير والحكايات الخرافية، ها هو الآن يعود الى الحديث عن ذلك القسيس الخرافي بإعجاب وبإلحاح في الوقت عينه. وينتهي هذا الأمر ذات يوم بظهور القسيس الأسود نفسه أمام كوفرين... وبعد مفاجأة اللقاء الأول، سرعان ما يدور بين الاثنين حديث يقول خلاله القسيس لصاحبه، رداً على سؤال يطرحه عليه هذا الأخير «سواء أكنت شبحاً أو سراباً... أو كنت في حقيقة الأمر أنا ذاتي، فإنني أنا من ناحيتي وفي حقيقة أمري لست سوى نتاج مخيلتك... مخيلتك المتحمسة المضطربة هي التي خلقتني. بيد ان هذا لا يعني انني غير موجود. فاذا كنت موجوداً في مخيلتك، وليس إلا في مخيلتك، فيعني هذا انني موجود في الطبيعة، طالما ان مخيلتك نفسها هي جزء من الطبيعة». وإذ يستريح كوفرين لهذا الكلام، يمعن في خوض السجالات مع القسيس الأسود الذي سرعان ما يعرّف البروفسور إلى رفاقه، من تلك الكائنات المتأملة المفكرة التي إنما يكون الهدف الأسمى من «وجودها» أن تقود الانسان نحو الحقيقة الخالدة المطلقة... أي نحو مستقبل مشع تهيمن عليه نزعة انسانية عميقة. ويرضى كوفرين بخوض اللعبة حتى نهايتها، إذ إن هذا الخطاب الطيب يفتنه إذ يمكنه كما يتراءى له من تشكيل تفاصيل حياته من حوله، حتى وإن كان بات الآن واثقاً من أن كل شيء انما هو من صنع خياله. ولم لا؟ يتساءل ويقول: «أوليس الخيال جزءاً من الطبيعة... وأليست الطبيعة حيز وجودنا؟». وهكذا تنفتح في وجه الاستاذ آفاق حياة جديدة تهدئ من ثورته الدائمة وتدفعه الى التأمل، بل توصله ذات لحظة الى الاعتقاد بأن السماء قد اختارته من أجل رسالة انسانية عميقة. وإذ تستريح نفسه على ذلك النحو، يلتفت الى حياته الشخصية ليكتشف انه بات الآن مغرماً بابنة صديقه، ويتقدم اليها ويتزوجها. ولكن سرعان ما ستكتشف هذه الأخيرة أن زوجها فاقد عقله، وانه بات مجنوناً بالفعل... واذ تقبض عليه ذات مرة بـ «الجرم المشهود» وهو في خلوة مع «صاحبه» القسيس الأسود يتبادل معه أطراف الحديث تصارحه بما آلت اليه حاله وتجبره على ان يقصد طبيباً لكي يتعالج... فيذعن كوفرين لإرادة زوجته، ويخضع فترة من الزمن الى العلاج... غير ان الذي يحدث هنا هو ان تعافيه يحرمه من الكسب الوحيد الذي كان حققه في حياته: السعادة. ذلك ان «مناقشاته» مع القسيس الأسود وتأملاته وخيالاته كانت منحته خلال تلك الفترة سعادة لا توصف ولا تضاهى، سعادة ارتبطت لديه بما راح يساوره من احلام العظمة. أما الآن فلقد انهارت تلك السعادة كلها. وعاد اليه العقل وخبت احلام عظمته وأفكاره حول الرسالة السماوية التي كلف بها. لم يعد الآن سوى انسان سويّ... عادي، كئيب يشكو كل الوقت. بل ها هو الآن وقد بات راغباً في الانتقام مما حصل له. وتكون النتيجة ان كوفرين اذ يعتبر زوجته مسؤولة عن هذا الذي يحصل له الآن... يتركها ليذهب ويعيش مع امرأة أخرى. ولكن ما إن تمضي عليه فترة قصيرة من الزمن في صحبة هذه المرأة الجديدة، حتى يتفاقم عليه داء السل الذي كانت بوادره بدأت تظهر عليه منذ زمن... وفي نهاية الأمر كان لا بد له من أن يموت... فمات. وهنا، خلال موته يعود صديقه القسيس الأسود الى الظهور أمامه من جديد، وهو في هذه المرة إنما يأتيه مبعوثاً من السماوات ومن لدن اصدقائه الآخرين، ليعزيه على حياته التي عاشها كما على الموت الذي انتهى اليه، قائلاً له انه يرى فيه عبقرياً حقيقياً، خصوصاً انه خلال حياته، فهم كما يبدو ان ثمة اختلالاً في التوازن كبيراً بين الجسد والروح... فالروح باقية أبدية خالدة، أما الجسد فإنه كائن شديد الضعف فإن قائلاً له بكل بساطة: «الحق ان ما فعلته يا صديقي هو انك الآن انما أعدت التوازن بين الروح والجسد». > والحال أن كل الذين درسوا حياة انطون تشيكوف (1860-1904) يلاحظون انه خلال تلك الفترة من حياته، كان شديد الاهتمام بدور الروح في حياة الانسان، وبكون الجسد أضعف ما لدى الكائن البشري... وعلى رغم ان معظم المسرحيات، والقصص، التي كتبها تشيكوف خلال تلك الفترة من حياته، كان ينتمي الى الأدب الواقعي، بل الطبيعي، فإن قراءة معمقة بين سطور تلك الاعمال قد تكون كافية لتلمس الآثار العميقة والحقيقية لتأملات تشيكوف تلك، ولانشغالاته. علماً أن منطق الرجل، ومنطق تفكيره، حدياً به دائماً الى ان يكون، في النصوص غير المسرحية التي كتبها خلال تلك الحقبة، أكثر تصريحاً حول مسألة العلاقة بين الخيال والواقع، وبين الروح والجسد، كما بين العقل والجنون، منه في أعماله المسرحية... وواضح هنا ان تشيكوف ما كان يريد لهواجسه الذاتية ان تطغى على اعمال كان يعرف حقاً ان له شركاء في ايصالها الى الجمهور (من فنيين وممثلين وتقنيين)، في مقابل اعمال كان يغامر بأن يكتبها لذاته. أما الملاحظة الأخيرة هنا فهي ان صاحب «طائر النورس» و «بستان الكرز» و «السهوب» خلق في «القسيس الاسود» شخصية، هي شخصية البروفسور كوفرين، تكاد تكون انعكاساً في مرآة - غريبة بعض الشيء على أية حال - لشخصيته نفسها... وعلى الأقل خلال تلك المرحلة من حياته.
مشاركة :