دُميان.. وفلسفة البحث عن الهوية عند هيرمان هيسه!

  • 3/30/2023
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

إنه تائه.. إنه مشتاق.. إنه مرهق.. إنه يبحث! والباحث التائه لابد أن يطوي في صدره طوال الوقت ألماً، والرؤى التي تُساق إليه تقض مضجعه، والهواجس التي تقتحم تفكيره تؤرق سهاده، والمحطات التي يصلها تباعًا لا تشفي شيئًا من غليله ولا تمنحه الخلاص، فيما تتفاقم الأوجاع في قلبه، وتُحيله متفردًا مميزًا وحيدًا خائفًا ماردًا عن بقية القطيع، لا يريد أحدًا ولا أحد يريده! دُميان رواية الألماني المعذب هيرمان هيسه، هيرمان وُلد بخلفية مسيحية خالصة، أبواه كاثوليكيان مؤمنان وعملا جاهدين لكي يصل ابنهما إلى المرفأ الذي ظناه آمنًا مطمئنًا، لكن هيرمان لا يصله قط ولا تطؤه قدماه ولا يذوق قطرة من الراحة التي عرفها أبواه، فإجابات الإنجيل لم ترق له، والمدرسة الكاثوليكية لم تترك في نفسه سوى الكراهية، والقصص الدينية ما استطاع تقبلها سائغة سهلة ولم يسعه سوى أن يُعمل فيها فكره. إن الرواية ذات المئة والخمسين صفحة ما هي إلا بحث، بحث عن هوية ضائعة ووطن يستكين فيه المرء وتأنس إليه روحه، لقد مرض هيرمان هيسه خلال كتابة هذه الرواية وأُدخل مصحة نفسية وكاد أن يجن! وما ذاك إلا لأنه كان يكتب عن أدق أسراره وأكثر مخبوءات نفسه عمقًا وغموضًا، أمورًا ما جرؤ قط على البوح بها جهارًا، أفكارًا كان يرتاع لها لكنه لم يملك قط القوة الكافية لطردها أو الخلاص منها، فبقيت فيه سرمدية أبدية كديدان خبيثة تتلوى، تُعطبه وتراوغه ويراوغها! وينطلق الكاتب في وصف عميق لطفولته والبيت الذي نشأ منه، والسواد الذي لطالما شعر به في أعماقه، يلوثه ويبعده عن العالم النقي الطاهر الذي عاش في كنفه الأبوان والأخوات الثلاث التقيات، ويحكي عن دُميان، الفتى الذي قاده نحو طريق النور -بالنسبة له على الأقل-، وعلّمه مهارة استكشاف أفكارها وتجريدها وفحصها تحت ضوء النهار دون خجل ولا مواربة، لقد كان قويًا واضحًا واثقًا كأنه الكون ذاته متجرد! في النهاية يصل الكاتب لدين ارتاح إليه ونراه مسجيًا على وجهه بجوار دُميان تحت خط نار الحرب العالمية الأولى، يبتسم دُميان للفتى الذي رافقه طيلة حياته ويهمس له من خلال أنفاس الموت "اسمه يا سنكلير الصغير، إني راحل، ربما احتجت إلي ذات يوم مرة أخرى فإذا ناديتني لن آتي بشكلٍ ملموس على ظهر قطار أو جواد، سيكون عليك أن تنصت إلى أعماقك وعندها ستكتشف أنني داخلك"!. لكن ما أعتقده أن الكاتب لمّا كان يعرف أن بطله لن يجد طريقًا أبدًا، لأنه هو نفسه لايزال يبحث تائهًا فإنه ختم روايته على هذه الطريقة لعله يبعث في شخصيته التي خلقها شيئًا من الارتياح وطمأنينة الوصول التي لم يعرفها هو قط قبلاً! وإني لأسائل نفسي: هل عرف هيرمان هيسه قط الإسلام؟ هل اهتدت إليه يداه قبيل رحيله إلى الأبد عن الوجود؟ لأنه لو عرفه فإني أجزم أن حيرته وتيهه وألمه لكانت انتهت جميعًا حينها، مرة وإلى الأبد. هيرمان هيسه

مشاركة :