بين دالية أبي العلاء «غير مجد»، ورباعيات «الزهاوي»، و«مواكب» جبران، و«صناجة» الرياشي، نسب وعرق متين، فهي على الجملة قنوط من العيش، وملل من السعي، وتضاحك بالناس. فكأن هذا الفرع من الأدب العربي شيء على حدة، لا صلة بينه وبين الآخرين! ويتلاقى على الفرع الجديد شعراء من كل صوب، فسرب من ضفاف «دجلة»، وسرب من مشارف «المهجر»، يضاف إليهم شعراء ما برحوا زغب الحواصل. فلم يعتلوا الجو بعد، ولا تجاوبت الجهات بأصواتهم. بل تسمع لهم بين الفترة والفترة هتفات تجيء بها الريح وتذهب، وإنك لتعجب حين تدري أن ذلك الفرع العربي الذي نبت ـ أو كأنه نبت ـ على جوانب «اللزوميات» لم يستقم ساقه في النماء، ولا خرج شطؤه على عادة الشجر، فهو غراس عجيب، طلع في «المعرة»، وأورق في «نيسابور». فكأنما نبت في «دهليز» أبي العلاء، ومال على «بساط» الخيام بالظل والزهر! فقل في ذلك الفرع الأعوج غراس نسقيه الماء عربيا، فيخرج الزهر فارسيا كإحدى الشجرات في حقلك، على الحد، همها عليك، وظلها على جارك. وذلك الفرع لم يتبدل على الأزمنة، فهو منذ ما مد الخيام بساطه إلى يومك الحاضر شيمة واحدة، فحقت للناس كما رأيت، وهزؤ بالحياة، وإطلاق النفس على الهوى، وتباعد عن المعترك، حتى لتحسب أن الدنيا خلقت لواحد! فبينا أنت من يومك حيث تمج الدنيا العريضة بالغادين على العيش، وتزحم المناكب المناكب، إذ الواحد من الجماعة يناديك من بعيد وهو في مثل كوة الصومعة، فتدهش لذلك المتخلف عن ركب الحياة، تسائل نفسك ما شأنه، وما تخلفه في آخر الخلائق، وما يصنع بعمره، ويُنتفع به !! فتجد صاحبنا قعيد الصومعة، محلول العزيمة، همه من الدنيا بساط عشب، وكأس خمر، وساعة من حبيب - وعلى كل شيء بعد ذلك العفاء! ولعمرك كيف يتبدل «أدب الصومعة» هذا، ويمد ساقيه على بحبوحة، ومجاله أضيق من قيد الشبر!! فهو أشبه ما يكون بمخيلة «مانه» على قول «زولا»: - «مانه» عصفور صغير، على غصن صغير، في ربيع عمره خمس دقائق... وهكذا «أدب الصومعة» لف ودوران على غرض أيسر من أن يحسب في الهموم، فلا غوص على النفس، ولا تطلع إلى محجب من وجوه الحياة، ولا كدح في صعيد الفكر وراء الحق والجمال. فإذا جاد حبيب بساعة، وامتلأت كأس براح، واخضر مطرح بعشب، قامت الدنيا في نظر الجماعة، واستراحوا حيث تتعب العقول! ولقد أشرفت الدنيا على آخرها، و«أدب الصومعة» في موضعه لا يتحول، فلا مد أذنا بعد «الخيام»، ولا أطرح عينا، ولا سرح أصبعاً، فالقصة أن شاعر الفرس بعد أن جاب فكره الأرض والسموات، وأوفى على الأمر، برح به الكد، فأطلق في وجه الحياة رباعية حرى، عذره بها عذر الغمرة، التي تغم النفس بعض الأحايين ثم تنجلي، فتعلق أولئك على الرباعية «السوداء». وحسبوا أن تلك النفثة غاية الرجل من الفلسفة، وجماع رأيه، ومعاذ «أبي الفتح» عمر، وهو نادرة فارس في الحكمة والطبيعيات، والفقه والتكليف، والتاريخ وعلوم النجوم، أن يقصر العيش على هبوط الطبع، وانتكاس الذهن! فأعجب لأدب مسمر عليه بتلك النفثة الفانية، تتحول لعقائد، وتترامى الأغراض، وتنفسح شقة الفكر البشري، وهو المعلق في مكانه!
مشاركة :