يوميات الألم مرآة الذات في 'لم أخرج من ليلي'

  • 3/31/2023
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

تواصل الكاتبة الفرنسية العالمية "آني أرنو"، الحائزة على جائزة نوبل في الآداب هذا العام 2022، الغوص في أعماق ذاتها الساردة من خلال روايتها "لم أخرج من ليلي" [1] على النحو الذي تمضي به رسالتها/ خطابها الأدبي الذي يتكئ على الذات في كتابة لا تعدم مصداقيتها ولا حضورها النفسي في وعي الكتابة والمتلقي الذي يطالع كتابا مفتوحا شارحا لدقائق الحياة وتفاصيلها التي تتأرجح بين الشجن والركون إلى النفس في مراجعات قيمية تهز أركان العلاقة مع الواقع وتخلخلها، لتضع نقاطا وحدودا فاصلة بين ما كان وما كان ينبغي أن يكون، فالكاتبة في كتابتها/ رواياتها الذاتية الأخرى تتلظى بين نار المجتمع ونار الذات والعادات والتقاليد والعلاقات الحميمة، ومن خلال نمط للكتابة العارية التي تلتمس الواقع بكل حذافيره، فيما تأتي مساحات التخييل من خلال "الذات" وتطلعاتها للتغيير أو التمرد أو الوصول إلى صيغ حاكمية جديدة تناهض وتناقض حاكمية المجتمع الموزعة بين ذكورة قادرة على الفعل، وأنوثة غامضة ثائرة على الثوابت والقيود، ومتطلعة إلى تشريح الذات للوصول إلى غايات أخرى. في هذه الرواية/ اليوميات الغاصة بالألم والشجن، تقدم/ تجسد آني أرنو صورة جديدة من صور التعالق بالذات من خلال علاقتها بأمها في نهايات العمر، بهذه الصيغة الحميمية التي تجعل من الأم أو الأحداث/ الحالات التي تمر بها مرآة لما كان يحدث معها (الكاتبة) في طفولتها/ شيخوخة الأم وخروجها عن السيطرة والتحكم الانفعاليين، وتوحدهما معا في مرآة الماضي الذي كان يربط الساردة/ الطفلة بالأم، وارتداد الأم إليه في هذه الحالة، وفي المستقبل الذي ينتظر الساردة، وتستشرف فيه شخصيتها المقبلة كصورة من الأم في نهاياتها بعد رحيلها، لتضع ثوابت لعلاقة وجودية نفسية تتحكم في إطار السرد/ البوح الذي تشرح فيه علاقتها بالذات من جهة، والأم/ القرين المتوحد لها من جهة أخرى، وببراعة تلك العبارة التي التقطتها الساردة، كآخر ما قالته الأم، ممثلة في العنوان البليغ للرواية "لم أخرج من ليلي" لتنال جدارة تمثيل الشخصيتين المتوحدتين: "يوم السبت تقيأت قهوتها، كانت نائمة جامدة، كانت عيناها قد ضاقتا، كانتا محاطتين بالاحمرار، خلعتُ عنها ملابسها لكي أغيِّرها. جسمها أبيض وطري. فيما بعد بكيت، ذلك بسبب الزمن، بسبب الماضي.. كما أنه جسدي، ذلك الذي أراه. أخشى أن تموت، أفضلها مجنونة" حيث تبدو تلك النزعة للوجود الذي يتساوى هنا مع الخلود الذي ترتجيه الذات لذاتها، وللأم في تبادلية عنيفة تلعب دورها على مدار النص الروائي، وتؤسس لهذه النزعة التي تتوزع فيها الذات على بدنين أحدهما راحل والآخر باقي يعاني ويلات تلك الآلام الوجودية المقترنة دوما بعملية الإحلال الروحانية الشفيفة التي تربط المادي بالمعنوي والمحسوس: "يداها مشوهتان. السبابة بارزة منذ المفصل، تشبه مخلب الطير. تعقد أصابعها، تحكهم. لا أستطيع أن أنزع عيني عن يديها، دون كلمة تتركني لكي تذهب وتتناول العشاء. في اللحظة التي تدخل فيها حجرة الطعام أصير "هي". الألم هائل لرؤية حياتها تنتهي على هذا النحو" هذه الحالة من الالتباس المعنوي المستشرف لكل ما هو مادي في علاقة الساردة بالأم هو حس نفسي تتورط فيه من خلال الأسلوب الذي ينتهجه السرد ليبرز مدى القوة الروحية التي تتعامل بها الشخصيتان، وما تفرزه هذه العلاقة من حس بالازدواج لدى الأنا/ الذات التي تراها من منظور الازدواج في شخصيتها، ليبلغ هنا التخييل الذاتي الذي تتميز به كتابات آني أرنو مداه حين تعبر عن ذلك بقولها في يومية لاحقة: "جلست في كرسيها، وجلست هي على مقعد، انطباع رهيب بالازدواج، أنا هي وأنا في آن.." تلك الصيغة الاعترافية التي تسم العمل الروائي الذي لا ينكر التصاق الكاتب به، ولا يخجل من تداعيات العلاقة الكاشفة مع الواقع والتي تعري قبحه ودمامته إلى ما يصل بالتعبير إلى جمالية القبح، أو استساغة البذاءة، أو تقبل الواقع كما هو، التي ربما فاحت من المفردات الصريحة الموجهة في كثير من المواضيع في متن النص. "كانت أمي نائمة، صغيرة جدا، رأسها مقلوب مثلما كنت أفعل في طفولتي بعد ظهيرة أيام الآحاد (هل كنت أكره ذلك؟) ساقاها مرفوعتان في الهواء (مثلما في طفولتي) كانت ترتدي حفاضة..." هذه الحالة من المقارنة المستمرة والمرتبطة بكل تفصيلة من تفصيلات الأيام الأخيرة للأم، تحفر في فضاء الذات بمعاول من قسوة شديدة تعمق من معنى الألم، حينما يتحول الحزن البادي إلى حزن وجودي دفين تعبر عنه الكتابة وتستنطقه من خلال المراوحة بين الوصف التقريري والتخييل لما يعتمل في داخل الذات الساردة، ليرتبط بأسئلة كثيرة متلاحقة تشكل وجدان الكتابة وتدفعها في مسارات جدلية تستدعي حالات من الشجن واستنطاق الثوابت ومحاكمتها على النحو الذي يدفع بالتشكك: "كل شيء مقلوب، الآن إنها هي ابنتي، لكنني لا أستطيع أن أكون أمها" ربما عمَّق هذا الشعور الدخول في التناقضات التي تحدثها الحالة خوفا من الهروب من تلك اللحظة الآنية البشعة إلى حالة ذهنية وزمنية أكثر بشاعة وقسوة على النفس، ربما تهرب منه الساردة لتتجول في وجوه الناس من خلال الأخريات المشاركات للأم في دار المسنات، إلا أن سيطرة الحس بها والتوحد معها تدفع دائما في اتجاه تكريس كل الأمور في صالح الوجود المرجعي والتأسيسي والجذري والتوحدي مع الذات في صورها المتعددة وفي حياتها وفي كتبها ككاتبة بصيغة اعترافية ملتزمة تأتي من خلال سردها الشفيف، حين تعبر عن أمها ونفسها وحالتها الآنية في ذات اللحظة المكتنزة بقولها: "امرأة عنيفة ذات مرجعية واحدة لتفسير العالم، مرجعية الدين. أتساءل عما إذا كنت أستطيع أن أكتب كتابا عنها، مثل "المكان" [2] La place لم تكن هناك مسافة واقعية بيننا، كان هناك توحد" تنزع الكاتبة هنا من خلال هذا التوصيف وتقنين علاقة الأم مع العالم وموقفها الثابت من العقيدة وتوجهها نحو الالتزام، إلى فلسفة الموقف الإنساني الذي تبدو معه تناقضات/ فروقات علاقات التماهي المائزة بينهما، وإلى الشعور باعتياد حدة الألم، ومن ثم التعامل مع النص على أنه تسجيلي/ تقريري يسيح في أرجاء العلاقة الممتدة بالروح، بكاميرا الذهن والشعور معا، وكأنما العقل ارتضى بحاكمية تلك الروح وسيطرتها على وعي الساردة لتتشكل به آلية السرد/ الكتابة وإيقاعها على مدار النص الروائي المفعم، وهو ما يؤكده قولها: "أتفادى في أثناء الكتابة أن أترك نفسي تنجرف مع المشاعر" "ذلك الألم هو نفسه طوال الوقت. ومع ذلك ففي مجل الحلواني بالقرية، في ذلك الصباح صفعت امرأة بنتا صغيرة، صفعة مترددة، الطفلة المهانة ذات الكبرياء لم تبك وجه الأم مغلق، قاس. ذلك المشهد يقلبني، يذكرني بأمي وهي تصفعني لكي أقول نعم أو لا" هذا التحول الذهني الذي يقلب دفة الألم المرتبط بالأم إلى ألم ذاتي محض لا يتراءى في المرآة تحديدا، ولكن يتراءى من خلالها ومن خلال الأفعال الشاذة التي لها ضلع في عملية الترسيب النفسي داخل الطفلة الصغيرة التي كانت الساردة تفتقدها ثم تستعيدها من خلال الأفعال اللا إرادية التي تأتي بها الأم من خلال شيخوختها لتضع بها صورة نفسية من صور الماضي في تقابلات عكسية ومتضادة دالة على مدى فوضى الإحساس النفسي بالوجود.. "صورة ملحة: نافذة مفتوحة - امرأة أنا مزدوجة – تنظر إلى الطبيعة. منظر مشمس لشهر أبريل/نيسان الذي يعني الطفولة. إنها أمام نافذة مفتوحة على الطفولة. تجعلني تلك الرؤية دائما أفكر في لوحة لدورثيا تاننج، عيد الميلاد. نرى امرأة ذات صدر عار، وخلفها الأبواب مفتوحة إلى ما لا نهاية" تبث الكاتبة هذه المشاهدة الطفولية القادرة على تأويل تلك العلاقات التي تشكل الوعي من خلال علاقتها بالأم على النحو الذي تبرز فيه رؤيتها البصرية المشبعة بالتوازيات والإسقاطات على واقع يبدو التخييل الذاتي – الذي تبرز فيه صورة الأم/ الذات - من خلاله مهربا ومفرا من وطأة تلك العلاقات القديمة المتوحدة، فيما بين تشبثها بالبدايات والنهايات القدرية التي ترتد بالوعي والتصرفات إلى منطقة الطفولة المبطنة بانعدام الوعي أو تخفيه خلف القدرات الخارقة للآخرين الممتلئين بالحياة، وهو حال الساردة وهي ترى، وهو حالها وهي تحكي بكل التفاصيل الموجعة، ما يسمح مرة أخرى بتسرب العالم الخارجي الملموس والمحسوس ليدخل في غمار تلك العلاقة الأبدية المتوحدة ليثير آثار الحياة على وجه هذه المساحة المشغولة بالعدم والنهايات. ومحمد عطية محمود من مواليد الإسكندرية وهو عضو اتحاد كتّاب مصر - عضو نادي القصة المصري، ومن إصداراته الإبداعية المجموعة القصصية "على حافة الحلم" 2003 والمجموعة القصصية "وخز الأماني" 2004 والمجموعة القصصية "في انتظار القادم" 2009 و"أحوال للروح".. م. قصصية.. دائرة الثقافة بالشارقة 2022. ومن إصداراته النقدية "تجليات سرد الحياة.. قراءة في أدب نجيب محفوظ" و"ملامح روائية، قراءات في روايات الألفية الثالثة" والقصة القصيرة وأسئلة الوجود. وحصل محمد عطية محمود على العديد من الجوائز منها جائزة النقد الأولى في المسابقة المركزية لقصور الثقافة 2016/2017 عن كتاب "إشكاليات الهامش.. تجليات النص".. دراسة تطبيقية في روايات الإسكندرية، جائزة جمعية الأدباء في القصة القصيرة 2007، جائزة المؤتمر الرابع للأستاذ الدكتور محمد زكي العشماوي "دورة الرواية" 2009 وجائزة اتحاد كتاب مصر في الرواية (جائزة يوسف أبورية) 2013. وله عدة مشاركات بحثية من بينها احتفالية مئوية نجيب محفوظ "من المحلية إلى العالمية" بقصر التذوق بالإسكندرية نوفمبر/تشرين الثاني 2011، مؤتمر اليوم الأدبي الواحد بالإسكندرية بمركز الإسكندرية للإبداع ـ مايو/أيار 2011، مؤتمر إقليم غرب ووسط الدلتا الثقافي 2019 (الدورة 20) بدمنهور بمحافظة البحيرة، وبحث عن القصة القصيرة في الإقليم وملتقى الشارقة للسرد في دورته الثامنة عشر التي أقيمت بالقاهرة في الفترة من 5 إلى 6 سبتمبر/أيلول 2022، تحت عنوان: "المتخيل السردي وأسئلة ما بعد الحداثة في الرواية العربية"، كرئيس جلسة "المتخيل السردي والتراث". [1]  لم أخرج من ليلي – رواية – آني أرنو – ت: نورا أمين - المشروع القومي للترجمة – المجلس الأعلى للثقافة [2]  إحدى روايات الكاتبة

مشاركة :