افترقتُ عن الجميع بعد أن مالَتْ قَـدَمايَ في خلوة يعشقها قلبي على انفراد بيني وبين من يهواها فؤادي؛ من أجلها أقدِم على ركُوبِ المخاطِرِ ولا أُبالِي، وإنْ بلَغت القلوبُ الحناجرَ فأنا لها. خَيِطت قَـدمايَ، وتقاطرتا كخيط الإبلِ تتابعَ فِي دَرْبٍ لا أجْهَلهَا، بل غَيْباً وعَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ أحْفَظها وإنْ كنتُ مُغَمَّض العَيْنَيْنِ، وأطبقت جفنايَ فقلبي مَن يرشدني إليها. أعرف جميع درُوبِها وممرّاتها ودهاليزها وسرادِيبِها، خنادقِها وسككِها، الواسعةُ منها والضيقةُ، وأما عن امتدادِ خَلِيجِها الواسع الذي يسكن قلبي فَهْو مَرْتَعَي. أعشق ضِيَاءَ القَمَرِ وانعكاسَهُ على سواحلها الساكنةِ بتلك الإضاءة البسيطة، تَسْتَضَيءُ طرقاتُنا وبحارنا وجبالنا، تتشابك سلسلةً ذهبية في جميع شوارعها. تبدو لك منجماً أو مَعلَماً يُنِيرُ معهُ طَرِيقَنا، يدخِلنا في طمأنينةٍ لا مثيل لها.. مدينتي «بوظبي» هيّ مرابع طفولتي ومسقط رأسي، «معشوقتي»، لطالما أُحب ان آتَيِّهَ نَفْسَي وتظل قدمايَ عن عَمْدٍ متهاديَّتين بين شوارعها.. على متن تلك الطائرة استوضحت الشَّمْسَ أمام عينيَّ، وما إن وصلت وبعد أن اجتزتُ منصة الاستقبال وأنا أهرعُ من الجميع إليها لأرتمي بين أحضانها. اجتزتُ شارعاً فرعياً، وبتلك البدلة الرسمية، فلا صوت لخطى قدميَّ! على كرسيٍّ خشبي في وسط شارع فرعي أشعلت سيجارتي الأولى في حياتي، وكأن الدخان المتصاعدَ أثر نيرانٍ تحترق شوقاً في صدري! أطفأتُ سيجارتي قبل أن أشعلها بعد أن تسارعت نبضات قلبي. أغمضتُ عينيَّ وأخذت نفساً عميقاً لأستطيع اسْتيعابَ فرحة أنني على أرض الوطن. بعد أن أحدثت البَدْلَةُ الرسميّة التي أرْتَدِيها صَخَباً وضجيجاً في المكان أدركتُ أن النَّهَار أصبح في أوسطِه، وكأن الفُصُول الأَرْبَعَةَ انقضَتْ في ليلةٍ واحدة. وإن تَوَارِيْنا عن أوطاننا وابتعدنا، لأسباب عدة، كائناً ما كان السبب (مهمة، بحث، دراسة ...الخ)، قد تختلف أسباب ابتعادنا، ولكنْ هناك بَرْقٌ خفيٌّ يخفق بين صدورنا، أو بالأحرى زَئِيرُ شوقٍ كنَهِيمِ الأَسَدِ يسكن بين جوارحنا، ولا يختفي ذلك الصوت وإن بعدت خطواتنا عنها! على ذلك الكرسيِّ أخبرتُ أحد الأطفال، لا أعتقد أن عمره يتجاوز العاشرةَ، بقصة قصيره حدَّدتْ مسيرتي، كان ينتظر حافلته، قلتُ له: أخبركَ بقصة؟ قال: نعم أخبرني، فقد مللتُ الانتظار. اسْمعْنِي إذن وافهمْ مقصدي: عندما كنت في عمرك، أو قد أكون أكبر منك بقليلٍ، حدَثَ موقفٌ استطعتُ من خلاله أن أرى شغفي، وأرى مستقبلي، كانت الساعةُ العاشرةَ والنصف في إحدى حصص اللغة العربية، طلَب منا الأستاذُ أن نجسِّد الوطنَ بكلمةٍ، أو مَن يستطيع بقصيدةٍ، كُنا لا نزال في المرحلة المتوسطة أو كما يسميها البعض التأسيسيةِ، أَوْقعَنا الأستاذُ في حيَرَة فلم نكن نجيد قرض الشعرِ، ولا يمكننا أيضاً في ذلك العمر أن نجسّد الوطنَ بكلمةٍ واحدة! على حين غَفْلة قال لي طَوِيلُ القَامَةِ ذاك: أنت، نعم أنت، أسمعْنِي مَا خَطْبُكَ، لمَ لا تنطق؟ فقط أخبرني بما يجول في عقلك، أرى في عينيكَ الكثير.. من غير أن أتَلَعْثَمُ أو يَتَلَجْلَجُ لسَانِي قلت له: أستاذي إن الوطن قطعة من القلب، ومهجة الروح وراحة الجسد، وكما يقول الشاعر: وطني اُحِــــــــــــبُكَ لا بديلْ أتريدُ من قـــــــــــولي دليلْ سيظلُّ حُبك في دمــــــي لا لن أحيـــــدَ ولـــن أميـــــل سيظلُّ ذِكـــــرُكَ في فمي ووصيتي فـي كــــل جيـــل ودليلُ حُبي يـــــــــا بلادي سيشهد به الزمنُ الطويل قسماً بمن فَطَرَ السمــــاءَ ألا أفــــــرِّط.. في الجميل. طباعة Email فيسبوك تويتر لينكدين Pin Interest Whats App
مشاركة :