جمع الكاتب العراقي كه يلان محمد حواراته مع مجموعة من الكتّاب العرب كان قد أجراها مزودا بالحس الصحافي، ونشرت المواد الحوارية في صحف مختلفة يشير إليها في مفتتح الحوارات مثل القدس والجمهورية وأحيانا لا يشير للمحاور. وفي الخاتمة اختار كه يلان محمد أن يؤثث حلقة نقاشية بعنوان "واقع النقد ورهانات الرواية العربية" بمشاركة الدكتور حسن سرحان من العراق والدكتور لونيس بن علي من الجزائر، بحيث في كل مرة يطرح محمد سؤالا يجيب عنه الناقدان وهكذا تم التأسيس في هذا الكتاب لمساحتين واحدة للروائيين وأخرى للنُقاد ليتحدثوا مباشرة عن مواقفهم من مسائل أدبية مختلفة ويكشفون عن آرائهم التي بقدر ما تباينت تعكس أهمية الأسئلة وقيمة الأجوبة. نلاحظ تنوع الكتّاب الذين اختار كه يلان محمد أن يحاورهم منهم كتّاب يقيمون في أوطانهم وآخرون اختاروا المهجر أو اضطروا إلى المنافي، كما أنهم ينتمون إلى مدارس سردية مختلفة منهم من يكتب بطريقة تقليدية ومنهم من يحاول أن يجرب أشكال مختلفة، وأغلبهم ممن كان لهم حضور مؤثر في الواقع الثقافي، إذ يستنطقهم على طريقته، في مفتتح الحوار أحيانا يقدم محمد لروائيين الذين يحاورهم مثلما فعل مع أغلبهم وأحيانا يدخل مباشرة في الأسئلة وكأنه يفترض مسبقا أن شهرة الكاتب تعفيه من التقديم مثلما حدث في محاورته للروائية السورية لينا هويان الحسن ص 69 أو في محاورة الروائية السورية نغم حيدر ص 76 أو الروائية المصرية رشا عدلي ص 81. لفت انتباهي أن الأسئلة الموجهة للكُتّاب في أغلبها أسئلة من الداخل وهو ما كان يدفعني أكثر من مرة للعودة إلى محرك البحث غوغل للاطلاع بشكل أقرب عن عمل روائي ما. أيضا قرّب محمد في هذا الكتاب بعض الكُتّاب من القراء، فإن كان بعضهم يتصدر المشهد السردي لسبب أو لأخر فإن بعض من الكتّاب اختاروا نوع من العزلة والابتعاد عن الصخب وهو ما جعلهم بعيدين عن الأضواء لذلك هذا الكتاب يسلط عليهم الضوء ويلفت الانتباه إلى مسيرتهم الإبداعية. عندما يحلل الروائيون رواياتهم: تأتي أهمية الحوار مع أي كاتب بالنسبة إليّ من أنه يجعل الكاتب نفسه يتحدث مباشرة عن كتبه وعوالمها ويفسر أهم ما ورد فيها من تقنيات وتفاصيل تهم عملية الكتابة من جهة وتهم طريقة تناوله لبعض الشخصيات أو الأحداث وهذا ملمح مهم من منطلق أن داخل الحوار يُستنطق الكاتب حول العملية الإبداعية بما هي ممارسة رؤية في الوقت نفسه. وهذا ما تراه في محاورة سعد محمد رحيم وهو يتحدث عن النهاية الغامضة لرواية "مقتل بائع الكتب" فيقول "إن بطله محمود المرزوق لم يقتله شخص محدد وإنما ضحية تاريخ إشكالي ساهم هو نفسه في صنعه وإن لم يقصد ذلك" ثم يتدارك الروائي سعد محمد رحيم فيقول "من حق القارئ أن يؤول بطريقة أخرى" ص 32. أيضا ما يقوله أزهر جرجيس متحدثا عن "سعيد" بطل روايته "النوم في حقل الكرز" يقول "لم يشفع لسعيد ها هنا اسمه ولا انتماؤه ولا عمقه الحضاري في جعله شخصا سعيدا، فالسعادة مفهوم مشكك لا علاقة له بالهوية والانتماء والعمق الحضاري وكم من شعب لا يدين للحضارة بشيء يعيش السعادة في أقصى حدودها هذا ما أردت قوله باختصار" ص 40. الروائيون يطرحون قضايا في أجوبتهم: في هذا الكتاب تم تقديم بعض المواقف التي تمثل أسئلة محرجة وربما قضايا أدبية يستحق أن ننظر فيها مثل قول نزار عبدالستار "نعاني من أمية في فن الرواية" فهل يعني هذا أن الروائيين يكتبون وهم يجهلون تماما ماذا يفعلون؟ أليس في ذلك إدانة لمسار سردي يبدو هو النمط الأدبي المهيمن الآن؟ ألا يعني ذلك اتهام أغلب الروائيين بأنهم مجرد حكائيين سطحيين؟ هل يعني ذلك أن الرواية فن وعلم يدرس وقواعد تطبق؟ في هذه الحوارات لاحظت أن صاحب كتاب "كهف القارئ" ينتصر أحيانا إلى الروائيين العرب عندما يحيلهم مباشرة على نظرائهم من الأدباء العالميين، فهو مثلا يربط بين إنعام كجه جي وبين ماركيز يقول ص 25 "إن مقاربتك لثيمة الحب في عملك الجديد يجعلك قريبا مما تبناه ماركيز في رواية مائة عام من العزلة" أو الربط بين الروائية الجزائرية فضيلة الفاروق التي يعتبرها "تستوحي أسئلتها من آراء الروائية الفرنسية مارغريت دوراس" ص 114. في كتاب "مأدبة السرد" لاحظت أن أسئلة المحاور غالباً ما توجه إلى عمل روائي بعينه يتحدث فيه مع الكاتب وقد حدث هذا بطريقة مشوقة جعلتني أكثر من مرة أبحث عن الرواية وأبحث عنها لبرمجة قراءتها وهو ما حدث لي مع رواية "وحدها شجرة الرمان" لسنان أنطون وربما لأني قرأت له رواية "يا مريم" وأعجبتني، كما يهمني الحصولُ على الكتاب النقدي "كيف نقرأ ولماذا؟" لصاحبه هارولد بلوم الذي أشار إليه الدكتور لونيس بن علي ص 144. الروائيون وخصائص الرواية: من خلال هذه الحوارات يمكن أن نتبين بشكل عام خصائص الرواية مثل تعريفها من خلال علاقتها بالواقع من ذلك تعريف للرواية مثل قول كاتيا الطويل "الرواية هي هذا السحر، الجناحان اللذان أهرب بهما من الواقع ومشاكله" والذي يعني أن الرواية هي بديل عن الواقع. أيضا ما أشارت إليه أم الزين بن الشيخة التي تقول "إن الرواية هي إحدى حدائق الفلسفة بل هي فعل فلسفي بامتياز وربما هي الفعل الكلامي الانجازي الوحيد للفلسفة نفسها بوصفها تنتمي إلى مجال الوعد بالسعادة" ص 129 وهو ما يجعل من الرواية موقف من الحياة وينزلها في خانة "الرواية الذهنية" في حين أن الناقد الجزائري لونيس بن علي يذهب إلى أن الرواية هي "مغامرة تجريبية تؤسس وجودها الفني والجمالي على بحث مستمر عن الشكل الفني" ص 141. يمكن أيضا أن نتبين مواضيع الرواية التي يحددها الروائي المصري إيمان يحي فيقول "الواقع والخبرات العريضة هي القماش التي يصنع منها الروائي كتابته" ص 97. وفي مفهوم الروائي نفسه تقول أم الزين بن الشيخة مثلا "من يكتب وليس في نفسه شيء من الثورة على ما هو سائد في مجال الكتابة نفسها لن يكون سوى متملق كبير" ص 130. وعن خصوصية الرواية يقول الدكتور حسن سرحان "تطور الرواية يكمن بالنوع لا بالكم" ص 141، في حين أن لونيس بن علي يقول "في الرواية الموضوعات تتكرر إما محاكاة أو صدفة لكن ما لا يتكرر هي الأساليب". اختلاف الرؤى بين الروائيين: تبدو وجهة نظر الكتّاب مختلفة بل متناقضة في بعض المسائل المهمة مثل الهوية فنجد الكاتب العراقي محمد حياوي يقول "لست معنيا بالهوية في الحقيقة والشخصيات عندي تكتسب هويتها من موقعها الذي أضعها فيه" ص 11، في حين تقول الكاتبة المغربية فاتحة مرشيد "أعتقد أن فعل الكتابة هو في حد ذاته بحث عن هوية، هوية الكاتب أساسا من خلال شخصيات يبتكرها" ص 44، وهو ما يبرز اختلاف وجهات النظر ويعبر عن الثراء المعرفي الذي توفره هذه المحاورات. من خلال محاورة الكُتاب في "مأدبة السرد" يمكن أن نعثر على مقولات لافتة تتحول بدورها إلى أقوال سردية مأثورة لها حسب رأيي قيمتها الأدبية مثل قول أزهر جرجيس "الكتابة السردية فعل جمالي مهمته طرح الأسئلة" ص 40 أو قول لينا هويان الحسن "الكاتب هو أسلوب قبل كل شيء، أسلوبك الذي يدل على تقاطيع ذهنك وملامح تفكيرك هندامك وحضورك كلها أمور تشي بمضمونك (..) نحن نشبه ما نكتب" ص 75. أعتقد أن قيمة هذا الكتاب الحواري أنه ينتصر من جهة لأهمية محاورة الكُتّاب وجعلهم يتحدثون عن رواياتهم وعوالمهم مباشرة كما أنه يسجل مواقفهم من قضايا أدبية ويكشفون عن صنعتهم داخل النص الروائي نفسه. "مأدبة السرد حوارات في صنعة الرواية" صدرت عن دار قناديل العراقية بغداد 2022.
مشاركة :