القوة الناعمة من أهم المفاهيم التي ظهرت منذ أكثر من ثلاثة عقود، وقد بدأت أهميتها عقب الحرب الباردة. يقول صاحب المفهوم، وهو عالم السياسة المتميز جوزيف ناي، إن الفرق بين القوة الناعمة والقوة الصلبة أن الأولى قوة جذب، والثانية قوة دفع، وهذا المقياس الرئيس في معرفة الفرق. وحتى الاقتصاد الذي يعتقد بعضهم أنه ضمن القوة الناعمة ليس كذلك، يذكر ناي أن أحد الباحثين اقترح استخدام الطاقة قوةً ناعمة ضد إيران لمنعها امتلاك أسلحة نووية. ويعلق ناي أنه ليست هناك نعومة في الحظر الاقتصادي إذا كنت هدفاً لهذه العقوبات الاقتصادية، وبذلك تصبح العقوبات الاقتصادية قوة دفع وليست قوة جذب. ويخلط بعضهم بين المفهومين لجهة النعومة الظاهرة على الأداة المستخدمة، فيرى أن الإعلام قوة ناعمة لأنها ليست كالقوة العسكرية قوة مدمرة في ظاهرها فعلى سبيل المثال تقول رئيسة تحرير لصحيفة يومية معروفة في المنطقة عن موضوع القوة الناعمة إن الدول تستخدم القوة الإعلامية قوةً ناعمة للتأثير في الدول الأخرى، وتستشهد بإذاعة «صوت العرب» وسيلةً ناعمة في مصر للتأثير في الأقطار العربية في الحقبة الناصرية. وقد أدى هذا الخلط إلى بروز مفهوم القوة الحادة، ويقول ناي بهذا الخصوص «إنَّ التَّواصل الاستراتيجي، والدِّعاية، وحرب المعلومات ليست جديدة، والقُوَّة الحادَّة ليست قُوَّة ناعمة رغم أنَّ المُصطَلَحَيْنِ يَتِمُّ الخلط بينهما لأنَّ هدفهما هو العقل» البشري. وقد فصّل عالمان بولنديان مفهوم القُوَّة الحادَّة التي تستخدمها بعض البلدان لتحقيق أهدافها. ويقول الكاتبان إنَّ القُوَّة الحادَّة «عمليات عدوانية تقوم بها دولة باستخدامها وسائل تُشْبِه عناصر القُوَّة النَّاعمة لغرض التلاعب بصورة بلد مُعَيَّن». والغرض من هذه الأعمال زعزعة استقرار النِّظام السياسي والاجتماعي، أو فَرْض بعض الأعمال على سلطات ذلك البلد. وكذلك الحال بالنسبة للأدوات المعلوماتية والثقافية. واستخدام هذه الوسائل جزء من القوة الحادَّة التي يُعَرِّفُها الباحثان كريستوفر واكر وجيسكا لدويق بأنَّهَا «القُوَّة التي تَخْتَرِق وتَنفُذ وتثقب البيئة السياسية والمعلوماتية للأقطار المستهدفة». ويَنْسب الكاتبان استخدام القُوَّة الحادَّة للأنظمة المعادية للغرب، وخاصة الصين وروسيا، إلا أنَّ الدول الغربية سَبَقَت هذه الأنظمة في توظيف القُوَّة الحادَّة. وحتى ناي يوافق على أنَّ الدول الغربية استخدمت هذه الأدوات الحادة لتقويض خصومها. وإذاعة «صوت أمريكا» كانت تَبُثُّ الدِّعايات المغرضة ضِدَّ الاتحاد السوفييتي إبانَ الحرب الباردة بل تحاول بَثَّ الشِّقَاق في المجتمعات الشيوعية. ويمكن القول إنَّ واشنطن لها الرِّيادة في هذا المجال ففي الخمسينيات من القرن المنصرم مَوَّلَت وكالة المخابرات المركزية (سي أي إيه) الجمعية الثقافية للحريات لتكون منتدىً للمثقفين والمفكرين المناوئين للشيوعية كما أنَّ «معهد كونفوشيوس» الذي تُمَوِّله الصين ويقوم بأنشطة ثقافية ونشر اللغة الصينية وله انتشار عالمي يَتَّهمه بعض الغربيين بأنَّه أداة حادَّة لاختراق المجتمعات الغربية، ولا سيما الولايات المتحدة. مهم جداً أن نفهم الفروق الدقيقة بين أدوات القوة لفهم أعمق للعلاقات بين الدول. وما القوة الحادة التي تظهر أنها قوة مثل الإعلام ناعمة في ظاهرها إلا أن اختراقها حاد وعنيف للمجتمعات المستهدفة. وقد قيل قديماً: «جراحات السنان لها التئام - - - ولا يلتئم ما جرح اللسان». * كاتب وأكاديمي طباعة Email فيسبوك تويتر لينكدين Pin Interest Whats App
مشاركة :