لعل موجات الانتفاضات الجماهيرية حول العالم، استفادت من القفزة التي حققتها وسائل الاتصالات. وسمح انتشار شبكات التواصل الاجتماعي بتناقل المعلومات بسرعة الزمن الحقيقي. وشكلت هذه الوسائل مصدرا لتعميم المعرفة ورفع سوية الإدراك العام. تصدرت شعارات هذه الاحتجاجات قضايا الحرية والديمقراطية والقانون، ما شكل تهديدا حقيقيا لأنظمة الاستبداد القائمة حول العالم. استفادت جماهير الناس من الطفرة في عملية التطور التقني، لكن الأنظمة الحاكمة ما لبثت أن التفتت إلى هذه العملية بشكل جدي جدا، وأفردت لها مخصصات عالية من ميزانية الدولة.وتشكلت جيوش حكومية إلكترونية، لا تقل شراسة عن القوات المسلحة. اعتمدت أجهزة الأنظمة الاستبدادية على تشويه مفاهيم الحرية والديمقراطية والقانون من خلال استخدام وسائل الإعلام والنشر وغيرها، ولم تقتصر على استخدام الوسائل المذكورة وحسب، بل ورافقتها بانتهاكات تتجاوز ما ينضوي تحت مفهوم "القوة الناعمة" فكان لا بد من التفريق بين الأولى وبين "القوة الحادة" التي تستخدم وسائل الأولى لتنفيذ العنف وانتهاك حقوق عامة الناس. وأصبح الشغل الشاغل للديمقراطيات حول العالم، هو العمل على إيجاد الطرق الصحيحة للرد على تأثير الاستبداد. كتب جوزيف ناي في مجلة "فورين أفيرز" بحثا تحت عنوان "كيف تشكل القوة الحادة تهديدا ضد القوة الناعمة". انطلق فيه من أن واشنطن ما زالت تصارع ضد مصطلح جديد يصف تهديدا قديما. "القوة الحادة" مصطلح استخدمه كريستوفر ولكر وجيسيكا لودفيغ من "المؤسسة الوطنية للديمقراطية"، ليصفا الحرب الإعلامية التي تشنها قوى الاستبداد اليوم، وتحديدا روسيا والصين. ويذكر ناي أن بكين وموسكو أنفقتا عشرات المليارات من الدولارات في العقد الماضي، في محاولتهما التأثير على تشكيل التصورات والسلوك العام حول العالم. باستخدامهما أدوات حديثة وقديمة لاستغلال تناظر الانفتاح بين نظاميهما المقيدين والمجتمعات الديمقراطية. ويشير ناي إلى أن التأثيرات جاءت عالمية، لكن في الولايات المتحدة، تركز القلق بشأن التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية لعام 2016، وعلى جهود الصين لفرض الرقابة على النقاشات حول مواضيع حساسة تتعلق بالمنشورات والسينما والتدريس المدرسي الأمريكي. في تقرير المؤسسة الوطنية الديمقراطية يوافق ولكر ولودفيغ على أن توسيع وتحسين القوة الحادة الصينية والروسية ستدفع صنّاع القرار السياسي في الولايات المتحدة وغيرها من الديمقراطيات، إلى إعادة النظر في أدوات الرد التي يستخدمونها. ويوضح التقرير أن هذه الديمقراطيات تتناقض مع القوة الحادة التي "تخترق وتلوث وتسبب الأذى للأجواء السياسية والإعلامية، في الدول المستهدفة،" إضافة إلى "القوة الناعمة" التي تسخٍّر جاذبية وقيم الثقافة لتعزيز قوة الدولة. ويرى الباحثان أنه يترتب على الديمقراطيات ليس "تحصين نفسها ضد النفوذ الاستبدادي الخبيث" وحسب، بل و"اتخاذ موقف أكثر حزما من أجل حماية مبادئها." إذن، يرى الكاتب أن تهديدات الحرب الإعلامية التي تقودها الصين وروسيا اليوم، هي حقيقية. لذلك، في مواجهة هذه التحديات، يترتب على الحكومات والمجتمعات الديمقراطية أن تتجنب أي إغواء لتقليد أساليب خصومهم. وتوخي الحرص من عدم الإفراط في استخدام القوة الحادة بشكل يؤدي إلى تقويض ميزتها الحقيقية. رغم أن الميزة تأتي اليوم، من "القوة الناعمة". يتابع ناي الحديث حول قوة صمود "القوة الناعمة"إذ يرى أن "القوة الناعمة)" في السياسة الدولية، هي قابلية التأثير على الآخرين بجذبهم وإقناعهم بشكل أفضل مما يحدث عن طريق استخدام "القوة الحادة" بالإكراه والابتزاز. ويتابع: نادرا ما تكون القوة الناعمة كافية بحد ذاتها، وعندما تعمل مع القوة الحادة، فهي تصبح قوة متعددة الوجوه. هذه التركيبة، وإن لم تكن جديدة (فقد اعتمدت الإمبراطورية الرومانية على القوتين، قوة الجحافل الرومانية وجاذبية الحضارة الرومانية)، مازالت تتمتع بخصوصية رئيسة لدى القيادة الأمريكية. تعتمد القوة على الجيش المنتصر، لكنها تعتمد أيضا، على الرواية الفائزة. الراوي القوي هو مصدر القوة. ويوضح الكاتب أن القوة الناعمة ليست جيدة أو سيئة بحد ذاتها. إذ أنه ليس بالضرورة أن اختبار العقول هو أفضل من اختبار الأسلحة. لأن أسامة بن لادن لم يهدد ولم يدفع للأشخاص الذين قادوا الطائرتين اللتين صدمتا برجي مركز التجارة العالمية، لقد جذبهما بأفكاره. لكن رغم أن القوة الناعمة يمكن أن تستخدم لأهداف شريرة، فوسائلها تعتمد على المتطوعين، وهذا يلقى الأفضلية من وجهة نظر الاستقلال الذاتي الإنساني. أما القوة الحادة، فهي على الطرف النقيض، إذ تعتمد على الإغواء بالدفع (الرشوة وشراء الذمم) أو الإكراه بالتهديد. إن وجه شخص ما السلاح إلى رأسك وطلب منك محفظتك، فهنا لا يهم ماذا تريد أو بماذا تفكر. هذه هي "القوة الحادة". أما إذا حاول نفس الشخص إقناعك بأن تسلمه محفظتك راضيا، فهنا كل شيء يعتمد على ماذا تريد أو بماذا تفكر. وهذه هي القوة الناعمة. "القوة الحادة"، هي الخداع في استخدام المعلومات لأغراض عدوانية، هو نوع من القوة القاسية. هناك تاريخ طويل للتلاعب بالأفكار والتصورات السياسية والعمليات الانتخابية. كلاهما، الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، لجآ إلى مثل هذه الأساليب خلال الحرب الباردة. الحكومات الاستبدادية تعمل على استخدام الأخبار الكاذبة وإثارة الاضطرابات الاجتماعية منذ زمن بعيد، في سبيل تقليص جاذبية الديمقراطية. في ثمانينات القرن الماضي، كان جهاز المخابرات السوفيتية (كي جي بي) ينشر الإشاعات بأن الإيدز (مرض نقص المناعة المكتسبة) هو نتيجة اختبارات الحكومة الأمريكية للأسلحة البيولوجية. وانطلقت الإشاعات من خلال رسالة باسم مجهول، إلى صحيفة صغيرة "نيو دلهي"، ثم انتشرت الدعاية عالميا بإعادة تناقل الخبر على شكل واسع والتكرار المستمر. في عام 2016، استخدمت نسخة محدثة من التقنية نفسها لتخلق ما دعي "بيتزا غيت"، وهي إشاعات كاذبة بشأن مدير الحملة الانتخابية لهيلاري كلينتون، بأنه كان يتحرش بالأولاد في مطعم بواشنطن. ويشير ناي إلى أن الجديد في الأمر، ليس نموذج العمل، بل السرعة التي تنتشر بها المعلومات الكاذبة، والكلفة المنخفضة لنشرها. لأن الأجهزة الإلكترونية أرخص وأسرع وأكثر أمانا ويمكن إنكارها أكثر من الجواسيس. مع هذا الجيش المأجور من المتصيدين والمقنعين وبالتعاون مع وسائل إعلام مثل "رشا تودي، روسيا اليوم" (أر تي) و"سبوتنيك"، تمكنت أجهزة المخابرات الروسية، بعد القرصنة على مواقع البريد الإلكتروني للجنة الوطنية الديمقراطية والمسؤولين الرئيسين عن حملة كلينتون، من تشتيت وتعطيل تداول الأخبار أسبوعا بعد أسبوع. ويلقي البرفسور ناي اللوم على الديمقراطية الغربية حين يتساءل: لكن إن كانت القوة الحادة قد عطلت أنشطة الديمقراطية الغربية وشوهت "العلامة المميزة" للدول الديمقراطية، هذا يعني أنه قد تم فعل القليل لتعزيز "القوة الناعمة" ضد الجناة، وفي بعض الحالات قامت بفعل العكس. فيما يتعلق بـ روسيا، التي ركزت على لعب دور المفسد في السياسات الدولية، يمكن أن تكون تكلفته مقبولة. أما بالنسبة لـ الصين، فلديها أهداف أخرى، تتطلب القوة الناعمة للجذب كما الإكراه من القوة الحادة للتعطيل والرقابة. لكن يصعب جمع هذين الهدفين معا. في أستراليا، على سبيل المثال، كان القبول العام للصين ينمو حتى ازدادت تقارير التحذير من استخدامها أدوات القوة الحادة، بما فيها التدخل في السياسات الأسترالية، ما أثر سلبا على مكانتها. بلغ مجموع ما أنفقته الصين في مجال استخدام أدوات القوة الناعمة نحو 10 مليارات دولار سنويا، لكنها حصلت على أدنى مستوى من عائدات استثماراتها، حسب دافيد شامبو من جامعة جورج واشنطن. في قائمة تصنيف "القوة الناعمة 30"، تحتل الصين المرتبة 25 وروسيا 26 من أصل 30 دولة قيد التصنيف.الديمقراطيون في حيص بيص رغم أن القوة الحادة والقوة الناعمة تعملان بأساليب مختلفة، لكن التمييز بينهما مسألة يصعب إدراكها، وهذا ما يجعل الرد على القوة الحادة صعب. وتنطوي جميع القناعات على خيارات كيفية صياغة المعلومات. بينما ينتقل الموضوع إلى الإكراه فقط، عندما تلقي الصياغات بظلالها على التصورات، التي تضع قيودا على خيارات الموضوع طوعا. ويرى البرفسور ناي أنه حسب قواعد الديبلوماسية العامة، عندما تبث "آر تي" الناطقة باسم موسكو أو "صينهوا" الناطقة باسم بكين، بشكل علني في دول أخرى، فهي تستخدم القوة الناعمة، التي يجب قبولها حتى وإن لم تكن رسالتها مرحب بها. وعندما تدعم إذاعة الصين الوطنية محطات إذاعات في دول أخرى، فهذا يؤدي إلى تقاطع الخطوط مع القوة الحادة، ما يتوجب كشفه. لكن بدون اتباع أسلوب صحيح للكشف، يجري انتهاك مبدأ الطوعية. هذه المقارنة تنطبق على الدبلوماسية الأمريكية أيضا. فالتمويل السري للأحزاب المناهضة للشيوعية في الانتخابات الإيطالية عام 1948 والدعم السري الذي قدمته المخابرات المركزية الأمريكية "سي آي إيه" لمؤتمر حرية الثقافة خلال الحرب الباردة، كانت هذه أمثلة على القوة الحادة وليس القوة الناعمة. تقدم بيئة المعلومات اليوم، تعقيدات إضافية. في ستينات القرن الماضي، لاحظ المذيع إدوارد موروأن الجزء الأهم من المجتمعات العالمية، لم يكن على بعد عشرة آلاف ميل وهو مدى بث الأجهزة الإلكترونية، بل على بعد ثلاثة أقدام من الشخص الأقرب. لكن ماذا يعني هذا في عالم شبكات التواصل الاجتماعي؟ "الأصدقاء" هم على مسافة نقرة، ومن السهل خلق أصدقاء افتراضيين، يمكنهم أن ينشروا أخبارا كاذبة، يؤلفها متصيدون مأجورون وأشخاص آليون. تمييز الخط الفاصل بين القوة الناعمة والقوة الحادة على الإنترنت، أصبح مهمة ليس القطاعات الحكومية والإعلام وحسب، بل والقطاع الخاص أيضا. وتبعا للباحث فإنه فيما ترد الديمقراطيات على القوة الحادة، عليها أن تكون حذرة من ارتكاب تجاوزات، حتى لا يقوض القوة الناعمة الخاصة بها، وذلك باتباع نصيحة من يدعون إلى التنافس مع القوة الحادة في النموذج الاستبدادي. تأتي معظم هذه القوى الناعمة من المجتمعات المدنية، كما في حالة واشنطن وهوليوود والجامعات والمؤسسات، أكثر منها من الجهود الدبلوماسية العامة الرسمية. وقد تفقد أصولها الحيوية إن تم قطع سبل الوصول إلى المعلومات أو إغلاقها.الدول الاستبدادية مثل الصين وروسيا، لديها مشكلة في خلق قوتها الناعمة الخاصة بها تماما، لأنها لا ترحب بتحرير المواهب الواسعة في مجتمعاتها المدنية. ويزيد الكاتب أن إغلاق أدوات القوة الناعمة المشروعة الروسية والصينية يمكن أن يؤدي إلى نتائج عكسية. كما في حالة أي شكل من أشكال القوة، فالقوة الناعمة غالبا ما تستخدم من أجل أغراض تنافسية صفرية، حيث تتساوى مسائل الربح والخسارة. لكنه يمكن أن يكون لها تأثيرات إيجابية بالنتيجة. على سبيل المثال، إذا رغبت الصين والولايات المتحدة بتفادي الصراع، فلتتبادلا البرامج التي تزيد من جاذبية أمريكا في الصين، والعكس بالعكس، وسيكون هذا عمل جيد لكلا الدولتين. أما بشأن التحديات المشتركة، مثل التغيرات المناخية، فإن القوة الناعمة يمكنها أن تبني الثقة وشبكات العمل التي تسهل عملية التعاون. بينما سيكون خطأ جديا إن تم حظر جهود القوة الناعمة الصينية، ببساطة، لأنه تتحول إلى القوة الحادة في بعض الأحيان. لذا من المهم مراقبة الخط الفاصل بدقة. ويدعو ناي للنظر إلى معاهد كونفوشيوس الـ 500 وفصول كونفوشيوس الدراسية الـ 1000 التي تدعمها الصين في الجامعات والمدارس حول العالم لتدريس اللغة الصينية والثقافة. ولا يعني دعم الدولة أنها بالضرورة تمثل مخاطر القوة الحادة. فالمراكز الثقافية البريطانية أيضا، تتمتع بدعم الدولة، لكنها مستقلة بما فيه الكفاية لتحافظ على مصداقيتها كأداة قوة ناعمة. فقط، عندما يتجاوز معهد كونفوشيوس الخط، ويحاول انتهاك الحرية الأكاديمية (كما حدث في بعض الحالات) يترتب التعامل معها كـ قوة حادة. ويرشد البرفسور ناي إلى أنه بصدد الرد على التهديد، يتوجب على الديمقراطيات أن تتوخى الحذر بشأن أفعال عدوانية. تستطيع الحرب الإعلامية أن تلعب دورا تكتيكيا مفيدا في أرض المعركة، كما في الحرب ضد تنظيم داعش. لكنه سيكون من الخطأ بالنسبة لهم أن يقلدوا الاستبداديين بإطلاق برامج رئيسة تعتمد على حرب المعلومات السرية. إذ أن مثل هذه الأعمال لن تبقى خفية إلى زمن طويل وعندما ينفضح الأمر ستنهار القوة ناعمة. في عالم الإجراءات الدفاعية، يمكن للحكومات الديمقراطية اتخاذ بعض الخطوات ضد تقنيات الحرب الإعلامية العدوانية للدول الاستبدادية، بما في ذلك الهجمات الإلكترونية على العمليات السياسية والانتخابية. لم تطور الديمقراطيات استراتيجيات كافية للردع والقدرة على الصمود حتى الآن. ويترتب عليهم أن يكونوا أكثر يقظة للتأكد من أن برامج القوة الناعمة الروسية والصينية، مثل معاهد كونفوشيوس لا تنضوي تحت القوة الحادة. لكن الانفتاح يبقى هو أفضل دفاع لمواجهة هذا التحدي والإعلام والأكاديميات والمنظمات المدنية والحكومة والقطاع الخاص، يجب أن تركز على كشف تقنيات الحرب الإعلامية، لكسب الحصانة أمام الرأي العام. ويختم ناي بأنه من حسن الحظ، أن الديمقراطيات تتميز عن الديكتاتوريات. وفي الحقيقة فإن الانفتاح في المجتمعات الديمقراطية يقدم الفرص للحكومات الاستبدادية كي توظف تقنيات عفا عنها الزمان في الحرب الإعلامية. لأن الانفتاح هو أيضا المصدر الرئيس لقابلية الديمقراطية على الجذب والإقناع. حتى مع تصاعد استخدام القوة الحادة، فإن مقدار الخوف ضئيل في ظروف المنافسة المفتوحة مع الأنظمة الفردية بالقوة الناعمة. إن صغّرت الديمقراطيات نفسها إلى مستوى خصومها فإنها ستفقد ميزتها الرئيسة.
مشاركة :