منذ رحيل الأديب والشاعر الكبير «حمزة شحاته» قبل نيف وأربعين عاماً وهو ما يزال محور جملة من الدراسات الأدبية والقراءات النقدية التي اتكأت على معظم إنتاجه الأدبي والشعري والفلسفي، ذلك أنّ معينه لا ينضب، فهو مقصد الدارسين ومطمح الباحثين، وأزعم أن مرد ذلك يعود لقلمه. «رفات عقل» يشبه القهوة السوداء.. سرها في مرارتها وسوادها زهد «حمزة شحاته» في الحضور؛ فكتب له الخلود وثبت على قيمه بصدق، فنال الإعجاب وحصد التقدير من جمهور المثقفين، واليوم يقف الناقد الشاب د.عادل خميس الزهراني -الأستاذ بآداب جامعة الملك عبدالعزيز- عند كوكبة من أعماله الخالدة، يحاورها، يناقشها، بذهنية عالية، بعد أن استوعب هذا الفكر «الشحاتي» ليخرج لنا بكتاب «جدلية الوجود والعدم، مقاربات أدبية وفلسفية لأعمال حمزة شحاته»، الصادر قبل شهر عن النادي الأدبي الثقافي بجدة، وكان بدورنا محاورة صاحب الكتاب؛ سعياً منا لمعرفة ما خرج به الناقد من التجربة، وفيما يلي تفاصيل الحوار: لم يتصالح مع أي واقع ينتهك القيم.. مؤمناً بتواضع أعماله كإيمانه بأن الساحة لا تستحقها! نبوءة المستقبل * حمل أدب "شحاته" في مطلع شبابه نبوءات بمستقبل زاهر، إلا أنّ هذه النبوءات غدت أحرفاً عن غضب وكلمات من سياط، السؤال هل خسر الرهان؟ - هذا سؤال صعب كما تعلم، حتى لشخص اعتكف لسنين في محراب "شحاته"، ورغم أني أتفق معك في اختلاف ألوان الرؤى في المرحلتين، إلا أني أحب أن أشير إلى أن أدب "شحاته" لم يحمل ذلك النفس الحالم الذي يؤثث المستقبل بالتطلعات الوردية، كان "شحاته" متوازناً، أقرب إلى فيلسوف، يعيش لحظته على طريقته، ويفهم الأشياء من حوله بطريقته، أنا أعتقد أن طريقته هذه في فهم الأشياء، كانت العامل الرئيس خلف انتكاسته واختياره الانسحاب، لم يملأ حمزة مستقبله بالنبوءات، لكنه فهم واقعه وعايشه لزمن، من يتعمق في أدبه يدرك أنه مع مرور الوقت كان حمزة يفهم الحياة أكثر مما يجب، وهنا تكمن فضيلة "شحاته"، ولعنته كذلك. واقع مرير * كيف تأتى ل"شحاته" أن يجمع في شخصيته بين التشاؤم والتسخط والتبرم من جهة، وبين حبه وميله للانضباط والنظام؟ - أظن أنهما لا يتعارضان كما يظهران في السؤال، فالتشاؤم نزعة نفسية، بينما الانضباط سلوك، صحيح أن السلوك يترجم بعض نزعات الإنسان الداخلية، لكننا نشير إلى سعي "شحاته" للمثالية في كل شيء، وقد كان مثالياً صادقاً، يطبق مبادئه على نفسه أولاً وبحزم مذهل أحياناً، من هنا كان اصطدامه بالواقع المرير، الذي يدعوه للتنازل والتحايل وإعادة صياغة بعض القيم لتناسب الحاضر، وهو ما جعله يراجع نفسه ويقرعها بالأسئلة، ولعل هذا ما دفعه لخيار العزلة والابتعاد، والثبات على قيمه التي آمن بها، هنا أشير إلى النموذج الذي يصيغه "شحاته" للمثقف الصادق الثابت على قيمه مهما تغيرت الظروف، وليت الكثير من مثقفي هذا الزمن يتعلمون. ردود فعل * ألا ترى أن مجمل كتاب "رفات عقل" ردود فعل نفسية على ظروف "شحاته" القلقة والقانطة؟ - بلا شك، وهو أيضاً خلاصة فلسفته، رفات عقل يشبه كثيراً القهوة المرة السوداء، تحتاج أن تفهم أن سرها في مرارتها وسوادها الحالك، حين تقترف إثم إضافة السكر عليها، فهي تتمرد عليك، وتفقد طبيعتها، هكذا رفات عقل، وهكذا يجب أن نفهم تغريداته السوداء، والمرة! أسئلة وجودية * هل ثمة رد فعل "للمصمك" في ميل "شحاته" للعزلة عن الناس؟ - ربما، بل من المرجح أن يكون هذا صحيحاً، لكني أضيف أنّ الأمر لدى "شحاته" أكثر عمقاً، في تلك الفترة العصيبة له ولكثير من شباب الحجاز، كان حمزة شخصاً فاعلاً، يظهر لي أنه –بطبيعته وإحساسه بالمسؤولية النابع من مثاليته– لعب دوراً حيوياً في تلك المحنة، وداخل الأسوار، يذكر أنّه كان يطبخ لرفاق السجن، ويشاركهم نقاشاتهم الاجتماعية، والفكرية، والأدبية، لكن بعد إطلاق سراحهم، تأتي الأسئلة الصعبة حول قيمة الحرية، والديمقراطية، وحرية التعبير، وهي أسئلة وجودية كما نعلم جميعاً، يمكن القول إن "شحاته" لم يستطع أن يتصالح مع أي واقع ينتهك هذه القيم والحقوق التي آمن بها وبثها في أدبه. تفسير غريب * ما مرد عدم نشر "شحاته" شيئاً من أعماله في كتاب، لا سيما وأنها تأتي في الصدارة من حيث الجودة والإبداع؟ - رغم أن هذه حقيقة معروفة، إلاّ أن الدافع خلفها يكاد يكون مجهولاً، أحب أن أجيب دوماً وفق سياق فهمي ل"الشحاتية" عموماً، أعني أنّ سيطرة النموذج المثالي كان أهم العوامل خلف ذلك، لم يكن "شحاته" مقتنعاً بما يكتب، كان يشعر دوماً أن هناك أفضل مما يُنتِج، سواء هو أو غيره، لذلك كان يخجل من نفسه ويتردد قبل أن يعرض نصوصه أمام الملأ، ثم رأى الساحة الثقافية -مع الوقت- تتحول مطية سهلة لكل من التصق بالأدب وبالثقافة بغض النظر عما لديه، من هنا تضخم ذلك النموذج ليرى أنّ وسطاً مثل هذا لا يستحق تجشم العناء، وهكذا تأصلت الفكرة في نفسه، حتى أصبح متطرفاً فيها بشكل مزعج، هذا تفسير غريب!، أتفق معك، نعم هو غريب ومتناقض، لكن هذا هو "شحاته" وهذه هي "الشحاتية": إنّه حمزة بتواضعه وأنفته، كان مؤمناً بتواضع أعماله كإيمانه بأن الساحة لا تستحقها. إرادة القوة * هل تتشابه أفكار "شحاته" وتطلعاته الفلسفية مع أفكار مشاهير فلاسفة العالم الذين كانت لهم آراء في الفضائل والأخلاق والغرائز والقوة وغيرها؟ - شهد رفاق "شحاته" له بالتميز والسبق في ميدان الثقافة، وهم –كما تعلم- ثلة من عمالقة الثقافة والأدب، لكنهم حينما يصفونه يتحدثون عن شخص سبقهم جميعاً، عزيز ضياء –مثلاً– تحدث عن هذا الجانب في كتابه "قمة عُرفت ولم تكتشف"، وفي الكتاب عملت جاهداً على استكشاف هذا الجانب، وهو ما كان في الفصل المعنون ب"هكذا تكلم شحاته"، المدقق في مقولات "شحاته" الفلسفية يجده يتقاطع في رؤيته للفن، والأخلاق، والحقيقة، مع فلاسفة أمثال "هيجل" و"كانت" و"بيكون"، لكن الدراسة أثبتت بشيء من التفصيل تلاقيه مع "نيتشه" خصوصاً، ليس على مستوى الرؤية وحسب، بل على مستوى المنهج أيضاً، موقفه من القوة مثلاً يكاد يطابق فلسفة "نيتشه" في إرادة القوة تقريباً، وهو ما يجعل تأثره به أمراً وارداً. سر الخلود * -هل صحيح أن "شحاته" حين ركن إلى العزلة منحته الحياة سر الخلود؟ - أعتقد أن أدبه فعل ذلك، لعله كان يبحث عن قلق الفلاسفة، عن راحة الدراويش، عن زاد المستكفي، لست متأكداً، لكن ما أشعر به أن العزلة منحته أمراً واحداً بامتياز: لقد جعلته يتفرغ لصراعه مع نفسه، تظهر الأعمال التي تسربت من تلك الفترة، كم كان مخلصاً لذلك الصراع، وكم كانت نفسه خصماً عنيداً بشرف فارس، شريفاً بعناد فرس حرب. الإيمان والعقل * المتأمل في "شحاته" بتأنٍ وعمق يجده ينطوي على إيمان صادق عميق دون أن يبرزه –كغيره من الأدباء والشعراء – في قصيدة نبوية أو يظهره في دعوة إسلامية أو يروج لفكرة دينية، وكيف تجلى له ذلك؟ - هذا أحد الجوانب المهمة في الأدب الشحاتي: العقل مؤثثاً بالإيمان، هكذا وصفته في الدراسة، وهكذا صاغه "شحاته"، أدبه يقود إلى نتيجة مهمة جداً -في رأيي–، مفادها أنّ الإيمان والعقل لا يتعارضان، وأن المزيد من العقل "التفكر، التدبر، السؤال...الخ"، يقود إلى مزيد من الإيمان، والعكس صحيح، لم يكن "شحاته" على ما يبدو يؤمن بأية محاولة لتغييب العقل وتهميش دوره، مثلما لم يكن مجدفاً، كحال بعض الفلاسفة. صور ساخرة * تعددت صور السخرية في أدب "شحاته" وأخذت أطواراً مختلفة، فتارة تأتي في قصيدة، وتارة في رسالة، وأخرى في مقالة، أي هذه الفنون كان فيها أكثر إجادة؟ - فيها كلها تقريباً، ما يميز أدب "شحاته" أنّه مطبوع غير متكلف، سواء في شعره أو نثره، السخرية كانت إحدى حيله الفلسفية لمخاتلة الحياة و الثأر من صفعاتها، وحسبما تطلب الموقف كان "شحاته" يكيف أسلوبه وصوره الساخرة، ففي مهاجاته مع العواد مثلاً نجد سخريته لاذعة حادة ومركبة، بينما في رسائله لابنته "شيرين" تظهر السخرية أبوية مسلية، أما في تأملاته، كانت تغريداته أشبه ما تكون بكوميديا سوداء، يسخر فيها من نفسه ومن الحياة. وطنية معنوية * مفهوم الوطنية عند "شحاته" يأخذ أكثر من دلالة بل يتسع ليكون أكثر شمولية، كيف تأتى له ذلك؟ - مهم ألا ننسى أن "شحاته" تكون ثقافياً واجتماعياً في المرحلة الهاشمية، ولذلك ظل مفهوم الوطن في أدبه متشظياً، فحيناً نشعر أن الوطن الذي يقصده هو الأمة الإسلامية أو العربية، وأحياناً يكون الوطن هو المملكة، وأحياناً الحجاز، يمكن أن أقول إن الوطن في أدب "شحاته" مفهوم معنوي أكثر من كونه كياناً حسياً، حياته خارج الحجاز سواء في الهند أو في القاهرة عامل مهم خلف هذا بلا شك. سلاسة واتساق * ما الخصائص التي ميزت تجربة "شحاته" الشعرية من حيث لغته وصوره وموسيقاه؟ - الخصائص كثيرة، يمكن البحث عنها في الكتاب وبقية الدراسات الأخرى التي تناولت أدب "شحاته"، لكني أشعر كثيراً بأن أهم الخصائص تكمن في التناسق النابع من موهبة أصيلة، يتميز شعر ونثر "شحاته" بسلاسة واتساق عجيبين، نادراً ما نجد عبارات في غير مكانها، أو صوراً محشورة حشراً، أو فكراً جامداً بعيداً عن روح الشعر، هذه سمة مهمة وقل ما تتوفر لدى الشاعر، الاتساق (consistency) عنصر مركزي في تأليف الأعمال الأدبية وتلقيها.
مشاركة :