كبرياء وهوى و«فانتازيا»!

  • 4/26/2023
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

يبدو من الغريب أن العديد من الكاتبات قد جعلن من شخص بطلتهن شخصية انطوائية وحادة الطباع ومتفردة في وحدتها، ودائمًا لها تفكيرها الخاص والذي يختلف عن الآخرين في كل شيء، ففي حين تثرثر الأخريات عن فساتين السهرة وأحدث صيحات الشعر أو كما في حالتنا هذه قبعات الرأس المزخرفة بالألوان تدفن هي وجهها في كتاب بعيدًا عن الصخب وتستغرقها الكلمات حتى تستوحش أنسهن، وفي حين تظل الواحدة منهن طوال عمرها تقريبًا تجدّ باحثة عن الزوج المناسب وتظل مؤرقة ليالٍ كاملة إثر نظرة أو تلميح من أحدهم تَنْفر هي من الفكرة ذاتها ولا يزاور الزواج قط مخيلتها، وفي حين يكون طريق الجميع سهلًا يسيرًا مذلّلا يصعُب طريقها وينحدر ويلتف في مفاجآت ومحنٍ لا تكاد تنتهي، وهي شخصية تبدو الأقرب لكاتبة الحكاية نفسها. وهكذا كان حال إليزابيث بينيت، الابنة الثانية للسيد بينيت والتي كان يفضلها على أخواتها الخمس، ويجد في رجاحة فكرها وآرائها الساخرة المرحة انعكاسًا لشخصه هو وطباعه هو، في الوقت الذي كانت زوجته فيه تستغرب كل تفصيلة فيها ولا يشغل بالها سوى تزويج بناتها الخمس اللواتي شببن وخطون نحو النضج والأنوثة، وصار العرسان يطرقون بابهن. رواية «كبرياء وهوى» أو «كبرياء وتحامل» أو «الفخر والازدراء»، للجميلة جاين أوستن من أشهر الكلاسيكيات الإنجليزية، الرواية هي الثانية للمؤلفة ونُشرت عام 1813م، ولدهشتي فإن هذه الرواية والرواية السابقة لجاين قد تم نشرهما تحت اسمها الحقيقي، بعكس ما كان شائعًا في تلك الفترة ولعشرات السنوات اللاحقة من أن يدرجن الكاتبات أسماء مستعارة لرجل غالبًا تحت رواياتهن أملًا في ذيوعها وطمعًا في تقبل أكبر لها من قبل الجمهور آنذاك، وهو ما فعلنه الأخوات برونتي الشهيرات بعد سنوات طويلة لاحقة، غير أن جاين كانت لها أسرتها وأبوها الذي آمن بها بصدق وأرسل لأحد أشهر الناشرين وقتها برواية ابنته لكن تم رفضها على الفور، لتُنشر بعدها وتحقق حتى في وقتها ذاك شهرة ونجاحًا كبيرًا، ومن سوء حظ المؤلفة أنها تخلت عن حقوق نشرها للناشر لقاء مبلغ مالي، مما عاد عليها بخسارة كبرى بعد النجاح الذي حققته الرواية وإعادة طباعة مئات النسخ منها على مدار سنوات عديدة. الرواية تنتقد بسخرية لاذعة «لكن مبطنة النهج» الذي كانت نساء الطبقة الارستقراطية ينتهجنه آنذاك وسعي كل أسرة لاصطياد الشبان الأثرياء لتزويج بناتهن، ولمّا حضر السيد بينغلي الثري الوسيم ليستقر في المنزل المجاور لم تضيع السيدة بينيت الفرصة وسارعت في تبادل الزيارات لتسنح لواحدة من بناتها فرصة الزواج بهذا السيد المهذب، لكن عندما حضر السيدة بينغلي في أول زيارة مع أختيه كان معه شاب آخر، السيد دارسي الأكثر ثراء والأكثر تحفظًا والصموت دائمًا بينما ترتسم في عينيه نظرة سخط واستهجان لكل ما تقع عليهما! وهكذا في واحدة من أقدم مناورات الحب التي تدور بين روحيْن متشابهتيْن تلتقي إليزابيث بدارسي وينتقد كل واحد منهما الآخر على الفور وينتهي اللقاء والأثر الذي ترك في نفسيهما تجاه الآخر مطبوعًا وباق، وتتابع الأحداث ما بين شدٍّ وجذب حتى تبدأ المشاحنات بالتحول إلى دهشة فضحكة فإعجاب فمحبة عميقة، «والآن أصدقني القول، هل أحببتَني لأنني كنتُ وقحة معك؟»، «لقد أحببتكِ لأن عقلكِ كان دائمًا متحفزًا وحاضرًا». فالسيد دارسي كان قد سئم مثلها السطحية التي تتسم بها غالب سيدات مجتمعه الراقي وسرّه أن عثر أخيرًا على زهرة الحائط المختلفة هذه والتي لاتسمح لأي أمر مهما كان دقيقًا عابرًا أن يمرّ على ذهنها دون أن تصقله وتهذبه وتُمعن النظر فيه. وهو بالطبع ما يعكس نظرة جاين أوستن نفسها التي ضاقت ذرعًا بالوضع الاجتماعي للمرأة حينها، وكيف كانت تمضي حياتها بحثًا عن الزوج الثري لينقذها من براثن الفقر وحتى لا تصبح عالة على عائلتها، وكيف من شأنها أن تصبر على عيوبه مهما عظمت حتى لا ينتهي بها المطاف فقيرةً منبوذة! حُولت الرواية لسلاسل تلفازية وأفلام ومسرحيات بدءًا من ثلاثينات القرن الماضي وطوال عدة عقود بعدها، وكان أجملها الفيلم البريطاني الأخير الصادر عام «2005» من إخراج جو وايت، ومن بطولة الفاتنة والموهوبة كالعادة كيرا نايتلي، والتي أذهلت الجميع في دور إليزابيث وأبرزت شخصيتها الحادة في عينيها السوداوين مما جعلها تترشح للأوسكار عن دورها هذا. وهناك الفيلم الأميركي الصادر عام «1940» من إخراج روبيرت ليونارد، وأدت فيه دور إليزابيث نجمة الأربعينات آنذاك غرير غارسون. الفانتازيا وأسرار شهرتها.. حينما كُنّا صغارًا أحببت وإخوتي كتابة القصص الخيالية، بضع صفحات مليئة بالشخصيات والأسماء الخيالية والكهوف الغامضة والولادات السرية، وذات مرة كتبت أختي الكبرى سارة ما يقارب فصولًا كاملة من حكاية ابتدأت ولم يُقدر لها قط الاكتمال، حينما قرأتها كاد شعر رأسي أن يقف واحتبست أنفاسي لفرط الإثارة، القصة كانت جيدة الحبكة إلى حد بعيد وكانت مفعمة بالغموض والأحداث الشيقة، أذكر أنها كانت تحكي عن سر رهيب ولد في جوف كهف قديم يقع على حافة شاطئ بحر في ليل مدلهمّ! كان بها عجوز متلفعة بالسواد وتحمل رضيعة بين يديها لتخبئها بين الصخور من مصير مظلم يكاد يحيق بها، القصة كتبتها أختي كاملة بالحبر الأخضر، وكانت حروفها متلاصقة والكلمات مبعثرة، وحتى اليوم حينما أتذكر منظر الصفحات المحشوة حتى آخر سطرٍ منها باللون الأخضر تنتابني الإثارة! الآن حينما أتخيل كيف انبثقت أفكار الروايات الفانتازية التي وقع العالم قاطبة في عشقها وصار مغرمًا بها متعلق بشخصياتها، لا أستطيع منع نفسي من أن أتخيل المسودات الأولى لهذه الروايات العملاقة بغير خربشات ورتوش اللون الأخضر! سيد الخواتم، هاري بوتر، «outlander»، وغيرها من القصص الخيالية والتي نمتْ لتصبح بالمئات وليُمسي كتاب كثيرون متنافسين في كتابتها حتى أصبح لها سوقًا ضخمًا وجمهورًا أضخم شديد الوفاء لها والتعلق بها! لكن المتأمل في هذه القصص يدرك بغير ذي جهد أن هذا الإعجاب الشديد بها ما هو إلا عشق للتاريخ حقيقة، وحتى بعدما قرأت وافتتنت بالعديد منها وجدت العديد من الأحداث متطابقة مع حادثات تاريخية وقعت بالفعل في العصور الوسطى وقبل مئات السنين، هذه الحقائق -الواقعية تمامًا- أُخذت ونُسجت حولها الخرافات وضُمت لقلاع عملاقة وأسر ملكية احتدمت الحروب بينها وكائنات مجنحة تطير وميتات لا تحصى وخيانات وتنافس وصراعات لا تنتهي، مثل نواة صلبة وحقيقة غُزل حولها ببطء خيوطًا هشة ملونة متشابكة وشديدة الجاذبية، لهذا هذه القصص مغناطيسية إلى هذا الحد إنها تربطك بالحياة وتُخرجك منها في الوقت ذاته ! أي أنها تمسّك لأنها تحكي عن تاريخ الإنسان وفي ذات الوقت تجعلك تحلق بعيدًا عن عالمك، بعيدًا عن أشغالك التي لا تنتهي، بعيدًا عن روتينك اليومي الممل، وفي أحيان كثيرة بالنسبة للأطفال والمراهقين من كل مكان حول العالم كانت منفذًا للهرب من مدرسة متنمرة أو بيت تعج به المشكلات، وتأخذ بك عاليًا عاليًا في أحداث ملتهبة متشابكة تنحبس لها أنفاسك! هذا الامتزاج العبقري بين الخيال وحقائق التاريخ هو أكثر ما أعجبني في مؤلفي هذه السلاسل الطويلة التي ألهمت العالم أجمع. وكان أول من ابتدع هذه «الموضة» بالطبع هو جون رونالد تولكين، البريطاني الحالم الذي خلق سلسلة سيد الخواتم، ونسج في صبر وأناة مئات الصفحات في قصة وحكاية خرافية متشعبة وواسعة وتحوي على خليط من الشخصيات والأقوام والشعوب والممالك والأراضي والمغامرات التي لا تنتهي، قصائدًا عذبة وتاريخًا خياليًا وملحمة تليق بحروب العصور الوسطى عاشت داخله وأهرقها روايات وأدب استحق عليه تكريمًا رفيع المستوى من الملكة إليزابيث الثانية، كما أن كتاباته بالطبع قادت مباشرة لهذا العالم الخيالي الساحر المقعد المدعو بالفانتازيا وصار تولكين أبًا لهذا الفرع الأدبي في عصرنا الحديث. ثم انهمر غيث الفانتازيا، والعجيب أن القراء قاطبة أحبوه، وتقريبًا معظم الروايات الفانتازية لاقت نجاحًا ضخمًا، وربما كان تحويلها لأفلام وسلاسل تلفازية عاملًا كبيرًا مساعدًا في زيادة معجبيها، حتى القصص السخيفة منها والتي تتحدث عن عالم من مصاصي الدماء والمستأذبين والوحوش كانت لها جمهورها وهو جمهور شديد الوفاء بالمناسبة. وما أعنيه هو أنه حتى في الفانتازيا نحن نبحث عما يربطنا بواقعنا، لأن هذًا ما يمسّنا وهذا ما يؤثر فينا، قد لا نعترف بذلك وقد نقول ببساطة إن القلاع والسحر وصراع العائلات والحروب الخيالية هي ما يجذبنا، لكن دون هذه اللمسة الواقعية لن تجد الفانتازيا في ساحتها واحدًا من معجبيها

مشاركة :