القصيدة الحديثة.. غامضة!

  • 2/15/2016
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

باتت القصيدة العربية الحديثة أو القصيدة التي يكتبها من يسمون بشعراء الحداثة بحاجة أحياناً كثيرة لأن ترفق بمذكرة إيضاحية أو شرح يجلو غوامضها، فكثيراً ما تستعصي معاني هذه القصيدة على الفهم، وتتمرد على أي محاولة لمعرفة سبب نظمها أو المقصود منها، وليس لمعرفة معنى الكلمات؛ لأنّ الشاعر الحديث لا يلجأ عند كتابة قصيدته إلى ما يطلق عليه الكلمات "الحوشية" أو "المقعرة" أو "المهجورة"، كما كان يفعل بعض الشعراء التقليديين، وسبب عدم لجوئه إلى مثل هذه الكلمات هو جهله بها لا أكثر!، ويلجأ إلى كلمات أخرى تؤدي الغرض ولو يعرفها القارئ، لكن لا رابط بينها، ولا يعرف أحد لماذا استخدمها الشاعر؟ وماذا قصد منها؟ وما هي الغاية التي توخاها من كتابة قصيدته ونشرها؟ وقد فطن القدماء إلى خطر تسلل الكلام المجاني إلى الشعر فاشترطوا في كلام القصيدة أن يدل على معنى، وبذلك أخرجوا من عداد الشعر كل ما هو لغو وثرثرة، ومع انّ القصيدة الحديثة تختلف بالطبع عن القصيدة التقليدية القديمة في جوانب كثيرة، إلاّ أنّ اشتراط توفر المعنى فيها لا يمكن إغفاله، فلا قصيدة تجريدية على غرار اللوحة التجريدية المعروفة في الرسم الحديث، وإنما ينبغي أن تكون كل كلمة في القصيدة -سواء كانت قديمة أو حديثة- مفهومة، أما القصيدة التي يحتاج فك ألغازها إلى مجمع نقاد يمضون ساعات طويلة في عالم الظن والتخمين، ولا يتمكنون من العودة سالمين من هذا العالم الذي تاهوا فيه، فلا تدخل في دائرة القصائد والشعر، وإنما ينبغي انّ تدخل في دوائر أخرى تناسبها. ولا يعني كل ذلك أنّ الغموض مما يتأباه الشعر أو أنّ القصيدة ينبغي أن تكون أشبه بالتقرير الإداري، فمن طبيعة الشعر هذا الرفيف الدائم في عالم الصور والأخيلة، ومن طبيعة الشعر أن تشف معانيه، وأن توحي، ولكن طبيعة الشعر تأبى النشاز على ما كرسته قيم الفن، والجمال، والدقة في الوصف، والرسم، والتعبير، منذ أقدم الأزمنة إلى اليوم، والواقع إنّ المجانية في الشعر هي أعدى أعداء الشعر؛ لأنّها تهبط بالشعر من المستوى الرفيع الذي يفترض أن يكون عليه إلى مستوى لا يليق بالشعر أصلاً، بل يضر به، فالشعر كما يقول الشاعر الفرنسي "بول فاليري": "فن نظم البارع من لا شعر وليس أي فن آخر". ولا شك أنّ على الشاعر أن يظل متأهباً للرد على أي استفسار حول قصيدته وحول أي كلمة أو صورة واردة فيها، فهذا من حق القارئ الذي يجد نفسه عاجزاً عن الإبحار في نص شعري صادف عسراً في فهمه، وهذا ما وجد نفسه فيه قارئ كان يستمع ذات مرة إلى الشاعر الشيلي الكبير الراحل "بابلو نيرودا"، وهو يلقي محاضرة عن صديقه الشاعر الأسباني الذي قتل في الحرب الأهلية الإسبانية "فيديريكو غارثيا لوركا"، فسأله أحد الحاضرين: "لماذا تقول في قصيدة نشيد إلى فيديركو (إنه من اجله تدهن المشافي باللون الازرق)؟"، فأجابه نيرودا: "انظر أيها الرفيق، إنّ توجيه مثل هذه الأسئلة إلى شاعر هو كمن يسأل النساء عن أعمارهن، فالشعر ليس مادة ستاتيكية جامدة، بل هو تيار متدفق، إلى حد أنه أحياناً يفلت من يدي خالقه.. سأحاول أن أجيبك بصراحة وصدق، إنّ اللون الأزرق بالنسبة لي هو أكثر الألوان جمالاً، إنّ للون الأزرق انحناءة الفضاء الإنساني مثل القبة السماوية نحو الحرية والفرح، إنّ حضور فيديريكو، وسحره الشخصي كانا يفرضان جواً من البهجة حوله، بيتي شعري يريد أن يقول إنّه حتى المشافي، حتى حزن الشافي، يمكن لها أن تستحيل بتأثير من فتنته ورقيه بغتةً إلى أبنية جميلة زرقاء". في تلك المحاضرة عن صديقه لوركا تمكن نيرودا من شرح ما انغلق فهمه على أحد قارئ قصيدته عن لوركا، وقد تبين أنّه لم يكن مجانياً أبداً عندما استخدم الصورة التي استخدمها في قصيدته، ولكن كم هو عدد الشعراء الذين يزنون كلماتهم بميزان الذهب عندما يكتبون قصيدتهم، ولا يدعون اللغو والتبذير يتسللان إليها؟ لقد فقد تعريف القدماء للشعر أنّه "الكلام الموزون المقفى الذي يدل على معنى" نفوذه الذي كان له في الماضي، وتساهل الكثيرون في هدر الشاعر للوزن والقافية إذا أتي بشعر ذي شأن، ولكنّ كثيرين آخرين تحفظوا على هدر جانب هام في تعريف القدماء للشعر، وهو "أنّه الكلام الذي يدل على معنى"؛ لأنّهم اعتبروا أنّ الإخلال بهذا المبدأ ينأى بالشعر عن الشعر، ويلقيه في خضم اللامعنى، ويحوله إلى أحاجي وألغاز.

مشاركة :