الإنسان المعاصر حبيس ما يعرض من «قوالب سعادة» جاهزة

  • 5/4/2023
  • 00:40
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

"البقاء ليس هو المشكلة، ستعيش حتى وإن كنت لا ترغب في ذلك"، هكذا تحدث أحدهم في إشارة إلى أن مناط الأزمة الإنسانية الحديثة هي الكيف، فنحن دونما شك، في الفترة الأكثر إثارة في التاريخ البشري. نعم، يعيش الإنسان المعاصر في صحة وثراء ورفاهية ولديه مزيد من الموارد للقيام بكل ما يريد، لكن عيشه يظل ناقصا رغم الوفرة التي تبقى متصلة بالضجيج ونقص في الرضا الفعلي. لو أردنا أن نجمع تاريخ السعي البشري حول فكرة واحدة، ستكون "السعادة" بشكل كبير هي الكلمة المناسبة. لكن رحلة السعي وراء السعادة، وكل ما يعده المجتمع الحديث كذلك، تداعت إلى سقوط في دوامات الشقاء، لدرجة حاز معها الاكتئاب صفة وباء القرن الـ21، فهو ثاني أكبر سبب للوفاة في الفئة العمرية من 15 إلى 29 عاما. ازداد الأمر حدة، في الآونة الأخيرة، مع توالي محاولات تقديم وصفات مرقمة بالخطوات -فيما يعد ضربا من العبث والتحايل- للإنسان المعاصر من أجل تحقيق سعادته. في السعي المستمر وراء السعادة، يسقط الفرد في مفارقة عجيبة، تجعله لا يرى سوى الجانب المظلم من كل شيء، فالإحساس بالحاجة والافتقاد لما ليس لديه يحول دون الاستمتاع بما لديه فعلا، ما يحول دونه وبلوغ السعادة المنشودة. وزادت تداعيات الثورة الرقمية الأمر تعقيدا، إذ بات المرء أسير منظور سلبي للحياة، نتيجة الإمعان في التسليع، حيث تسوق السعادة كسلعة قابلة للتقويم والقياس. ما معنى أن تكون سعيدا؟ سؤال بسيط للغاية، لكن أكثرنا عاجز عن تقديم إجابة بشأنه، وعلى فرض نجاحه في ذلك، فسرعان ما سيعدل أو يراجع أو يتخلى عن جوابه، متى بلغ ما كان يجري وراءه دون أن يمنحه ذلك مفاتيح السعادة، حتى إن تملكها فسرعان ما تزول وتندثر، لينطلق عداد السباق من جديد بحثا عن السعادة، في مشهد تحاكي تفاصيله أسطورة سيزيف اليونانية. تبقى الإجابة عن السؤال أعلاه قرينة ما يفتش عنه الإنسان، فهي أقرب إلى سؤال ما الحرارة؟ لأن الجواب حتما سيختلف بحسب الأشخاص، فهي بالنسبة إلى من يقطن في الدول الواقعة بالقرب من خط الاستواء، بسبب المناخ الذي اعتاده هؤلاء، لا تبدأ إلا عند بلوغ 40 درجة مئوية. أما من يعيش في سيبيريا، فيستمتع بالأجواء الدافئة بعد تجاوز درجة التجمد ببضع درجات فقط. استنتاج يفضي بنا إلى القول، على سبيل القياس والمماثلة، إن السعادة ليست قدرا، بل نتيجة قرار واختيار. أضحى الإنسان اليوم حبيس ما يعرض أمام ناظريه من قوالب جاهزة وصور منتقاة بعناية حول السعادة، فالمسألة أشبه بوصفة تضمن مقادير معينة لإعداد طبق أو كعكة، لا بد من استيفائها حتى ينجح الأمر. تبقى المفاجأة الكبرى حين إدراك سرعة انقضاء أثرها، ما يفرض البحث عن وصفة لسعادة أخرى، وهكذا دواليك في مسلسل بلا نهاية، سعيا وراء شيء نجهله، كمثل العطشان الذي يركض في الصحراء وراء السراب. انتشر الاعتقاد بأن المرء، وجوبا واستلزاما، يجب أن يكون سعيدا، فالسعادة هي الغاية من الحياة، وهذا غير صحيح إطلاقا أو على الأقل موضع خلاف وتباين في الآراء بشأنه. ما كان لهذه الفكرة أن تنتشر لولا تبضيع السعادة -من البضاعة-، فأصحاب المشروع بحاجة إلى زبائن يبيعونهم ما يبتكرون من وصفات ودلائل إرشادية تعد ببلوغ السعادة، رغم إدراكهم المسبق بأنه "من غير الواقعي أن نطلب السعادة طوال الوقت". وصل الأمر بهؤلاء إلى حد الاتجار في الوهم، خذ مثلا القبول الاجتماعي الذي جرى استحداثه كضرورة لتحقيق السعادة، في عالم غير حقيقي، قوامه شبكة اجتماعية من المظاهر. ما أكثر من يكسبون قوتهم من هذه الشبكات الاجتماعية، اعتمادا على تلك الأهمية، صنف من المؤثرين في وسائل التواصل الاجتماعي، فهم أمثلة حية لوصفات السعادة. فيما الحقيقة شيء آخر، بدءا من تضخيم أعداد المتابعين، بمجرد الدفع للشركات لزيادتهم، قصد جعلهم أكثر جاذبية مما هم عليه بالفعل. تبقى السعادة معلقة في انتظار استكمال ما هو مفقود، وبما أننا دوما في حالة من النقصان والافتقار، فنتيجة لذلك يكون استمتاع الأفراد بحياتهم موقوفا حتى إشعار آخر، أي نعم إلى حين تحقق واقعة التمام والاكتمال. ربما كان هذا ما يقصده الطبيب وعالم الأعصاب الأمريكي، ماريو ألونسو بويج، حين قال، "ما نحن عليه ليس هو ما يقيدنا، بل ما نظن أننا لسنا عليه". السعادة ما نريد نحن لا ما يريده لنا الآخرون، فمن الحكم المأثورة أن "من لم يكن سعيدا بما لديه بالفعل، لن يكون سعيدا بما قد يمتلكه مستقبلا". وكان ذلك إحدى أهم وصايا -أو بالأحرى محاذير- الكاتب الأمريكي أرنست ميلر هيمنجواي في أواخر أيامه، "منذ طفولتي وأنا أصل إلى ما أريد، ولكنني أصل وأنا منهك.. بالقدر الذي لا يجعلني أفرح، وكأني أريد أن أصل لأستريح.. أستريح فقط". لقد قيل لنا الكثير والكثير عن معاني السعادة، لكن تحديد ماهيتها متروك، وبشكل حصري، للفرد لذاته. فحالة السعادة هنا أشبه بالحجر الذي يبقى بالماهية نفسها، فهو سبب لتعثر الغافل، ومقذوفة في يد العنيف، ومادة في أعمال البناء، وقد يصبح منحوتة باهرة متى وقع بين يدي نحات.. وهلم جرا، فالحجر هو الحجر لكن الفارق في الشخص. تحولت رحلة البحث عن السعادة، لدى كثيرين، في عالم اليوم إلى جحيم لا يطاق، فالجري الدؤوب وراء حاجيات كانت ترد في دائرة الكماليات، قبل أن تنقلب اليوم ضرورة، صنع من إنسان العالم المعاصر "الإنسان الشقي" الذي يتحمل من أجل أمور من القساوة أكثر مما يحققه من حلاوة عند حيازتها. وفي ذلك قال الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي: "فما السعادة في الدنيا سوى حلم / ناء تضحي له أيامها الأمم".

مشاركة :