أزمة الإنسان المعاصر من منظور مختلف

  • 5/22/2016
  • 00:00
  • 53
  • 0
  • 0
news-picture

منذ نهايات القرن الماضي، وفي العقود الأخيرة بالتحديد، تحقق تقدم حثيث على صعيد التنمية البشرية وفي الناتج الإجمالي العالمي. فقد ارتفع دليل التنمية البشرية بين 1990 و2013 من 0.757 إلى 0.890 في البلدان ذات التنمية المرتفعة، كما ارتفع الناتج الإجمالي العالمي من 3 آلاف بليون دولار عام 1960 إلى 28423 بليون دولار عام 1998 إلى 92889 بليون دولار عام 2012. في الوقت ذاته، حدثت تطورات مذهلة في التكنولوجيا، وارتفع معدل العمر المتوقع، ومعدل وفيات الأطفال، وازداد التحصيل العلمي وتحسن مستوى التغذية وانخفض عدد الفقراء المدقعين، كما تحقق مقدار كبير في مجال المساواة بين الجنسين، وأصبح ما يتراوح بين نصف وثلاثة أرباع سكان العالم يعيشون في ظل حكم ديموقراطي. صاحبت هذا كله قفزة معرفية، تمثلت بصورة أساسية في ثورة الاتصالات التي حولت عالمنا بقاراته وأصقاعه إلى قرية كونية متصلة ببعضها بعضاً عبر وسائل إعلام غير مسبوقة، من الهاتف والراديو إلى التلفزيون والإنترنت. لكن، هل قاد هذا التقدم الهائل في الإنتاج والعلم والاتصال إلى تقدم مماثل سواء في سعادة الإنسان ورفاهه أو في علاقاته الإنسانية بالتوازي مع ثورة الاتصالات؟ وهل بات إنسان اليوم أكثر وفاقاً وتصالحاً مع نفسه أو مع المجتمع أو مع الكون مما كان عليه قبل الثورة المعاصرة؟ هذا ما تنفيه الأرقام والدراسات الاجتماعية والنفسية التي أجمعت على أن الاكتئاب يتزايد في الغرب منذ الخمسينات على رغم الرفاه الظاهر، وقد بيّن استطلاع 22 ألف بريطاني يعيشون في المدن، معظمهم دون الثلاثين، أن 76 في المئة يشعرون بتعب دائم و58 في المئة بتقلبات المزاج و52 في المئة بالافتقار إلى العاطفة والحوافز و50 في المئة يعانون القلق والاكتئاب، وصعوبة بالنوم والتركيز، وضعف الذاكرة. ويذكر إدغار موران أن القدرة الشرائية تزايدت في فرنسا 3 مرات بين 1960 و1990، لكن هذا النجاح الاقتصادي كان مقابل ثمن إنساني باهظ تجلى في الاستهلاك المسعور لأدوية الأمراض العقلية ومضادات الانهيار العصبي الذي تضاعف ست مرات، وعدد المنتحرين الذي تضاعف 3 مرات. في هذا السياق، ذهب المفكر الرأسمالي جوناثان بوريت إلى أن الأساس الاجتماعي للاستياء في المجتمع المعاصر لا يكمن في الدخل، بل في وحشة الوحدة والسأم والاكتئاب والغربة، والأوضاع الصحية والسيكولوجية العليلة التي ترافق كل ذلك. عليه، فإن مشاكل المجتمع الحديث بمعظمها هي نتيجة البنى الاجتماعية، والأيديولوجيات التي تمنع الناس من ممارسة حياة مُرضية في مجتمعاتهم. فعلى رغم الثورة التي حققتها تكنولوجيا الاتصال، نجد الإنسان المعاصر ينكفئ تدريجاً إلى ذاته، والحوار الإنساني ينقطع أو يكاد. فالعلاقات الحميمة بين البشر تتراجع، وعزلة الإنسان المعاصر تتعمق، غربته تشتد، وسط عالم يهدده بالنفي الدائم، عالم يصارع كي لا ينسحق في مواجهة تحدياته المستمرة. أجل، إن عالمنا الآن يبدو أكثر وحشة. عالم يخلو من الود ليغرق في «علاقات السوق»، يفرغ من الصداقة التي تنسحب إلى الماضي كأنها من القيم البائدة التي تنتمي إلى التاريخ لا إلى العصر. أما الحقيقة التي تؤكدها هذه الوقائع، فليست سوى النتيجة المأسوية لفشل تكنولوجيا الاتصال في تحقيق تواصل حقيقي بين الناس، حتى في المجتمعات الأكثر تطوراً، فقد لاحظ حليم بركات أن الناس في الولايات المتحدة يسيرون في الشوارع على الأغلب، كلٌّ وحده تماماً، حتى في نيويورك لا يتحدث الناس مع بعضهم بعضاً كثيراً، بينما عدد غير قليل من الأفراد يتحدث مع نفسه بصوت مسموع. فلماذا ساهمت ثورة الاتصال في تعميق عزلة الإنسان المعاصر وغربته بدل أن تزيده التصاقاً بالمجتمع وبأنداده من البشر؟ ولماذا أبعدت الفرد عن الناس بمقدار ما قربته إليهم؟ ولماذا تبدو تكنولوجيا الاتصال كأنها البديل الجاف والبارد لحرارة العلاقات الإنسانية؟ أسئلة نجد جواباً عنها في ما انتهى إليه التقدم الحضاري من تخلف عاطفي وأخلاقي ومن «تقهقر التضامن» بتعبير موران، التضامن الحقيقي الذي يشعر به الناس ويعيشونه كتآخ، بالمؤانسة ومشاركة الغير ذاتَه وآلامه، لإضفاء شاعرية على الحياة الإنسانية في مواجهة الآلة الصناعية، وتضخم العالم التقني البيروقراطي. كما نجد جواباً عنها في ما آل إليه الواقع الإنساني على يد الأيديولوجيات السياسية والاقتصادية التي هيمنت على العصر وقزّمت أبعاده الروحية والإنسانية. فالرأسمالية التي كانت سبب نمو الإنتاج، كانت هي أيضاً سبب تحويل كل شيء إلى بضاعة، وقد حولت بفظاعتها وتوحشها إنسان العصر إلى رقم قابل للتداول والنفي والإلغاء وفق مقتضيات سوقها المادية، نفذت العلاقات الإقصائية والإلغائية، مسقطة بذلك العلاقات الودية بين الناس. ولم تكن الاشتراكية بصيغتها البيروقراطية التي تم تداولها على مدى هذا العصر، أقل توحشاً وفظاظة. فقد سحقت الإنسان المعاصر تحت وطأة توتاليتاريتها الفظة والتسلطية، وجعلته جزءاً لا حول له ولا قيمة في آلتها البيروقراطية. لم تعمل هذه الأيديولوجيات إذاً إلا لتفتيت الوجود الإنساني الحميم ونفيه، فكان أن تقهقر التواصل الإنساني إلى حد الغربة والفردية الأنانية. والحل لن يكون إلا بإعادة الاعتبار للوجود الإنساني الحميم كقيمة قائمة بحد ذاتها، بل بما هي أصل القيم كلها وهدفها وغايتها النهائية. من هنا، يجب إحياء الروابط التواصلية التي كانت قائمة في المجتمعات الأهلية العربية، وصون ما تبقى منها، وتشجيع اندماج الإنسان المعاصر في علاقات جماعية طوعية يتحقق من خلالها أكبر مقدار من العلاقات الإنسانية الحميمة. ولقد آن الأوان كي تتجه الثورة الحضارية المعاصرة نحو الإنسان الذي أقصته أيديولوجيات العصر المتوحشة، حتى يصبح في الإمكان إنقاذه من أزمته وعلله الأخلاقية والسيكولوجية المتفاقمة التي تنذر بمستقبل أسوأ.     * كاتب لبناني

مشاركة :