في وقتنا الحالي غالب دول العالم النامي الأكثر تقدماً، تبنت النموذج الجديد لمؤهلات العمل القائمة على قدرات الفرد بدل الاعتبارات التقليدية العقيمة السابقة، القائمة على الواسطة والعصبيات والوراثة وما شابه من اعتبارات غير موضوعية للتوظيف، ومع التزايد المتسارع المتصاعد في أعداد السكان في جميع دول العالم النامي مع محدودية الفرص المتاحة، برزت معضلة جذرية حول كيف يمكن اختيار الشخص الأنسب من بين أعداد لا تحصى من أصحاب الكفاءة والتأهيل المرتفع المتشابه؟ والجواب الذي يمكن استخلاصه من قصص حياة من مروا بعنق الزجاجة هذا، وتحولوا من نكرات إلى أعظم أقطاب الامتياز والنجاح والثراء والشهرة عالمياً بجميع المجالات، من ريادة الأعمال والتكنولوجيا إلى الفنون والمجال الأكاديمي، حتى منهم من لم يتم قبولهم بالوظائف التي تقدموا إليها، لكنهم لم ييأسوا ولم يركنوا بانتظار الفرص، فصنعوا فرصهم بأنفسهم ومن تم تعيينهم مكانهم لم يحققوا شيئاً يذكر، فالخاصية السحرية التي يبدو أنها تصنع الفارق، وإن وجدت في شخص مهما كانت مؤهلاته، تبدو متواضعة بالمقارنة بغيره فهو سيفوق الجميع إن امتلكها هي؛ حس الجوع المطلق للنجاح بطموح كبير والشغف الجامح بطموحه هذا ومغامرته بكل البدائل الأخرى المتاحة في سبيله، والفارق بينه وبين غيره هو كالفارق بين ضوء الليزر المركز والضوء العادي المتشتت، وهذا ما يمنحه شخصية كارزماتية ستميزه، فمن لديه تلك الدافعية الذاتية يمكنه صنع المستحيل، ولذا المتخصصون بعلم النفس الصناعي والإداري الذين يشاركون بتقييم مقابلات المتقدمين للوظائف بالشركات الكبرى، باتت آراؤهم بالتقييم النفسي للصفات الشخصية للمتقدم، أهم من مؤهلاته الأخرى، لأن شخصاً يمتلك كل المؤهلات لكنه لا يمتلك مثل تلك الدافعية الذاتية القصوى لن يمكنه منافسة من يمتلكها، ولن يمكنه أن يتفانى في سبيلها بالشكل الذي سيتفانى به من يملك الجوع والشغف الجامح باتجاهها، وصفة الدافعية الذاتية والجوع والشغف الجامح للطموح قد تؤدي لتفضيل فئات معينة من المجتمع أكثر من غيرها، ليس لانحياز خاص لصالحها، كما يقول المتعصبون عادة، إنما لأنها فئات محرومة مادياً أو معنوياً، وأملها الوحيد هو تحقيقها للنجاح بطموحها التي هي شغوفة به كالفقراء والنساء والمهاجرين لأنهم ليس لديهم الامتيازات التي لغيرهم، التي تجعل لديهم خيارات وبدائل عدة بالحياة، وهناك شبكة اجتماعية وواقعية داعمة لهم، ولذا يعلمون أن نجاحهم وتفوقهم بالتعليم والعمل بشكل مضاعف عن أصحاب الامتيازات هو طوق نجاتهم الوحيد، ولذا يكون لديهم جوع وشغف لتحقيق طموحهم، ومستعدون لأقصى درجات التفاني في سبيله؛ ولذا بجميع دول العالم تلك الفئات تحقق المراتب الأولى بالنجاح الأكاديمي والعملي بجميع المجالات، ففي أمريكا رؤساء جميع الشركات العالمية مهاجرون ونساء وفقراء، وحتى غالب نجوم السينما والتلفزيون الأمريكي الجدد هم ليسوا أمريكيين ولا يقيمون بشكل دائم بأمريكا إنما أوروبيون فقراء، لأن صاحب رأس المال يبحث عن المستعد لأقصى درجات التفاني بالعمل، دون النرجسية التي يبديها أصحاب الامتيازات كالأمريكي العادي التي تجعله أقل تفانياً من نظيره الأوروبي الذي لديه جوع وشغف مطلق للنجاح بحلم هوليود، وفي ظل ثقافة اقتصاد السوق المحكوم باعتبارات الأرباح فقط العصبيات الوطنية والجغرافية ما عاد لها دور بعملية التوظيف، والسؤال المهم هو: هل يمكن أن يولّد إنسان في ذاته ذلك النوع من الدافعية المتطرفة القصوى التي يمكن حتى للآخرين ملاحظتها وتفضيله على من عداه بسببها؟ يمكن ذلك إن كان طموح الشخص كبيراً، وكان مستعداً لأقصى درجات التفاني في سبيل تحقيقه، مهما كانت التضحيات والصعوبات والإحباطات في بداية الطريق ومن سار على الدرب وصل.< Previous PageNext Page >
مشاركة :