لم تتخلّص الملاعب التونسية بعد من نزيف العنف الممارس في المدرجات كظاهرة اجتماعية، بل زادت وتيرته واتسعت رقعته بسبب التوظيف السياسي للرياضة كخزان جماهيري وشعبي، ما عمّق الفوارق بين النوادي وقلّص من منسوب الثقة في طرق تسيير الهياكل الرياضية. وعادت ظاهرة العنف والشغب داخل الملاعب والفضاءات الرياضية في تونس لتطفو على سطح الأحداث من جديد، وتطرح حزمة من التساؤلات حول من يقف وراء تغذيتها، وهل هناك أطراف تستفيد من ذلك وتسعى لإدامة “الفوضى” وعدم الاستقرار، فضلا عن علاقة ما يحدث في الملاعب بمستجدات الساحة السياسية. وأذن وزير الداخليّة كمال الفقي بفتح تحقيق والكشف عن جميع مُلابسات أحداث الشغب التي جدّت مساء السبت الماضي بملعب حمادي العقربي برادس بمُناسبة احتضانه لمباراة كرة القدم التي جمعت بين فريقي الترجّي الرّياضي التّونسي وشبيبة القبائل الجزائري لحساب إياب دور الربع النهائي لكأس رابطة الأبطال الأفريقية، وإقدام مجمُوعة من الأشخاص على خلع مُستودع بمُحيط الملعب واستعمال المُعدّات الموجُودة داخلهُ في الاعتداء على الوحدات الأمنيّة. وأعلن عمر الحنين الناطق الرسمي باسم المحكمة الابتدائية ببن عروس (قرب العاصمة تونس) أن النيابة العمومية قد قررت مساء السبت بالاحتفاظ بـ66 شخصا لمدة 48 ساعة قابلة للتمديد وذلك على خلفية أحداث العنف التي شهدها الملعب. وأكد الحنين في تصريح إعلامي أن “القرار شمل 48 شخصا تفوق أعمارهم الـ18 سنة و12 آخرين قصّرا تتراوح أعمارهم بين 16 و17 سنة. وقد تورط المحتفظ بهم المذكورون في رمي الحجارة وإحداث الشغب وإضرام النار داخل الملعب”. كما تمّ الاحتفاظ بستة أشخاص آخرين من أجل أفعال إجرامية أخرى من بينها حيازة مواد مخدرة وتدليس بطاقات دخول ومسك سلاح. وأفادت وزارة الداخلية في بيان الخميس، بأنّه على إثر تكرّر أحداث الشغب ومظاهر العنف التي شهدتها مؤخرا عدة ملاعب رياضية وما خلّفته من اعتداءات على قوات الأمن المكلّفة بتأمين المقابلات الرياضية خاصّة مباريات كرة القدم والتي أسفرت عن إصابات متفاوتة في صفوف عدد من رجال الأمن “تجدّد وزارة الدّاخليّة تمسّكها بالتتبع العدلي ضدّ كلّ المتورطين في أعمال التخريب والاعتداءات ومن يقف وراءهم وكلّ من ستكشف عنه الأبحاث”. تجاذبات المشهد السياسي رفيق بركة: هناك فئة من الجماهير تمارس الشغب والظاهرة تفشت في الفترة الأخيرة رفيق بركة: هناك فئة من الجماهير تمارس الشغب والظاهرة تفشت في الفترة الأخيرة ودعت الوزارة جميع الجمعيات الرياضية والهياكل المعنية إلى ضرورة العمل على الرفع من درجة تأطير المشجعين والانخراط في معاضدة المجهودات الأمنية حتى تحافظ المقابلات الرياضية على طابعها الترفيهي والاحتفالي بعيدا عن مظاهر العنف وفي كنف الروح الرياضية. ويؤكد المتابعون للشأن التونسي على وجود ارتباط وثيق بين العنف الممارس في الملاعب الرياضية وتجاذبات المشهد السياسي، خصوصا بعد قرارات الرئيس قيس سعيد في الخامس والعشرين من يوليو الماضي والترتيبات الجديدة في الساحة. وقال رفيق بركة كاتب عام فريق النجم الرياضي الساحلي إن “العنف مورس في المدارج وليس على أرضية الملعب، وهو من مسؤولية الأمن، ووزارة الداخلية مطالبة بتوفير الحلول اللازمة للحدّ من ذلك”. وأضاف لـ”العرب” أن “هناك فئة من الجماهير تمارس الشغب، والظاهرة تفشت في الفترة الأخيرة لأنه لم تتم معالجتها من جذورها، وفي كل مباراة يفتح تحقيق لكن دون نتائج إلى حدّ الآن”. وطالب بركة بـ”ضرورة تطبيق قانون الردع ضدّ الجماهير المخالفة في الملاعب”، لافتا إلى أن “صفحات وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت في تفشي الظاهرة”. كما دعا “الرابطة الوطنية لكرة القدم إلى تحمّل مسؤولياتها ومراجعة قانون العقوبات التي لم تحدّ من منسوب العنف في الملاعب”. ومنذ أسبوعين، أصدر فريق النجم الرادسي لكرة السلة بيانا عبّر من خلاله عن استغرابه من قرار الجامعة التونسية لكرة السلة القاضي بإعادة مباراته ضد النادي الأفريقي. وكانت المباراة الأولى ضمن “السوبر بلاي أوف” (اللعب من أجل التتويج) لبطولة كرة السلة بين النادي الأفريقي والنجم الرادسي الاثنين قد شهدت حالة من الفوضى، إثر إطلاق الوحدات الأمنية الغاز المسيل للدموع في قاعة القرجاني. مكرم اللقّام: هناك أطراف كانت تمسك بزمام السلطة تسعى لتوظيف العنف في الملاعب مكرم اللقّام: هناك أطراف كانت تمسك بزمام السلطة تسعى لتوظيف العنف في الملاعب وطالب النجم الرادسي بمراجعة القرار، مشيرا إلى “أن اللقاء شهد منذ بدايته رمي المقذوفات واجتياحا للميدان من قِبل بعض الجماهير”. وعبّرت هيئة النجم الرادسي عن “رفضها التعامل بسياسة المكيالين خصوصًا وأن مباراة أخرى ضمن نفس الجولة شهدت أحداثًا أقل حدّة، وقع على إثرها هزم الفريق المنافس”، في إشارة إلى قرار الجامعة بهزم الاتحاد المنستيري ضد النجم الساحلي. ولا تخلو منافسات الدرجات السفلى وخاصة في رياضة كرة القدم من أحداث عنف جراء رفض النوادي تقبل الهزيمة أو بسبب حسابات البقاء والنزول في هذه الأقسام. وأفاد الحكم الدولي السابق مكرم اللقّام أن “العنف في الملاعب هو نتيجة لغياب العدالة الرياضية، ما يجعل الجمهور البسيط يشعر بالظلم فضلا عن تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وهذا ما يولّد العنف”. وقال لـ”العرب” إن “هناك أطرافا كانت تمسك بزمام السلطة تسعى لتوظيف العنف في الملاعب لتحقيق أهداف سياسية، خصوصا بعد أن فقدت الأمل في العودة إلى الحكم، ومناصرو الأحزاب التي حكمت في العشرية الماضية وظّفوا 15 ألف أمني، وسجّلنا بعد إجراءات 25 يوليو اعتداءات من قبل الأمنيين على الصحافيين”. وتابع اللقام “من الغريب اليوم أن نرى أمنيا يشاهد سلوكا عنيفا ولا يتدخّل، وهناك رؤساء جامعات رياضية ساهموا في حملات انتخابية لشخصيات ترشحت للانتخابات الرئاسية”، لافتا إلى أن “هذه مؤشرات خطيرة وندعو الرئيس قيس سعيّد للتدخّل”. وأردف الحكم الدولي السابق “هناك أشخاص مندسّون يقتحمون صفوف الجماهير لإثارة الفوضى والبلبلة أحيانا، وظاهرة العنف كانت موجودة سابقا، لكن الآن ارتفعت وتيرتها وأسباب توظيفها”. مصالح ضيقة منذ 2020 فرضت تونس قيودا مشددة على دخول المشجعين إلى الملاعب بإقرار خوض المباريات من دون حضور الجمهور، قبل أن تخفف تلك القيود في مطلع العام الجاري بالسماح باستغلال 50 في المئة من طاقة استيعاب المدرجات، لكن استفحال ظاهرة العنف قد يدفع باتجاه العودة إلى منع الجماهير مجددا من ارتياد الملاعب، بحسب تقارير صحفية. فتحي المولدي: علاقة الجماهير بالأمن توتّرت ووصلنا إلى نقطة اللاعودة فتحي المولدي: علاقة الجماهير بالأمن توتّرت ووصلنا إلى نقطة اللاعودة وفقد التنافس الرياضي جوهره الخاص بعد أن أضحى “مرتعا” لكل الفئات تسعى من خلاله لتحقيق مصالحها الضيّقة جهويا ووطنيا، فضلا عن كونه جسرا سهل العبور نحو تلميع الشعبية السياسية والحزبية. وقال المحامي والناقد الرياضي فتحي المولدي إن “العنف تفاقم في الملاعب خلال الفترة الأخيرة وخاصة في أماكن لم نعهد فيها العنف، على غرار القاعات الرياضية المغطّاة، وهو عنف يمس رياضات نبيلة خلافا لما عرف سابقا واقترانه برياضة كرة القدم”. وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن “علاقة الجماهير بالأمن توتّرت، ووصلنا إلى نقطة اللاعودة وهي مرحلة انطلقت منذ وفاة شهيد الملاعب الشاب عمر العبيدي (31 مارس 2018)، والسياسة في عمق الرياضة منذ استقلال البلاد في 1956، حتى أن العديد من رؤساء النوادي الرياضية تم انتخابهم من أجل تحقيق أهداف سياسية”. وتابع المولدي “نعيش وضعا استثنائيا وهناك إفلات من العقاب وتسيّب على جميع المستويات، فضلا عن الهشاشة السياسية والوضع الاقتصادي المأزوم الذي جعل المواطن يختنق”. واستطرد قائلا “وصلنا إلى نهاية المواسم الرياضية، ونخشى أن تتفاقم سلوكيات العنف”. وتجاوز الصراع الرياضي الجماهير المتنافسة ليشمل جمهور الفريق الواحد وهو ما تجسده ظاهرة “المجموعات” التي أفرزتها حالة التعصب التي تعاني منها فئة من الجمهور الرياضي داخل المجتمع. وينحدر أغلب المشجّعين من الأحياء الشعبية في تونس، ويعيشون واقعا اجتماعيا واقتصاديا صعبا سواء داخل الأسرة أو في المجتمع. وبلغت الرياضة في تونس مرحلة بات فيها الفساد والتلاعب بالنتائج وغياب الروح الرياضية أمرا منتشرا، ليكون العنف انعكاسا لما يحصل في المجتمع. وقال المحلل السياسي والخبير الأمني خليفة الشيباني “بعد 2011 أصبحت ظاهرة العنف شبه مفتعلة، بسبب الخطاب السياسي والمجتمع العنيفين، وبات الشارع التونسي مسرحا لتحديد الهوية، فضلا عن العنف داخل الأسر ومظاهر أخرى تنقلها الدراما التونسية”. وأضاف لـ”العرب” أن “الجانب السياسي هو الفاعل الأساسي في الرياضة، وتم توظيف الجماهير الرياضية في كل الوضعيات وخصوصا في خلاف السلطة والمعارضة بعد قرارات الرئيس سعيد في 25 يوليو 2021”. وأوضح الشيباني أنه “لم يتم الاشتغال على إصلاح علاقة رجل الأمن بالمواطن في السنوات العشر الماضية، ولم نر مأسسة المنظومة الأمنية، كما أن الأمني والرياضي هما ضحايا ذلك التوظيف”. خليفة الشيباني: تم توظيف الجماهير الرياضية في الخلاف بين السلطة والمعارضة بعد 25 يوليو 2021 خليفة الشيباني: تم توظيف الجماهير الرياضية في الخلاف بين السلطة والمعارضة بعد 25 يوليو 2021 وتابع “هناك جمعيات رياضية عريقة في تونس أصبحت مسيّسة بعد 2011 على غرار النادي الأفريقي والنادي الرياضي الصفاقسي، ورأينا كيف ترأس سليم الرياحي الفريق لتحقيق أهداف سياسية فتحصّل حزبه (الاتحاد الوطني الحرّ) على 15 مقعدا في البرلمان، فضلا عن الصراع القائم بين الجامعة التونسية لكرة القدم ووزارة الشباب والرياضة، كذلك خلاف وزير الشباب والرياضة السابق طارق ذياب مع رئيس الجامعة وديع الجريء، وحملات رئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد لدعم النادي الأفريقي المتخبّط في الأزمات المالية، وكل تلك الممارسات ولّدت عنفا وأزمة ثقة كبيرة في الفضاء الرياضي”. وفي وقت سابق شدّد الرئيس التونسي على النأي بالرياضة عن كل التجاذبات، مؤكّدا على “ضرورة ألّا تتخفى وراء الجمعيات الرياضية جماعات ضغط ترمي إلى تحقيق مصالح شخصية أو إلى تأجيج الأوضاع وضرب السلم الأهلية لغايات يعلمها الجميع”. وقال خلال استقباله لكمال دقيش وزير الشباب والرياضة بقصر قرطاج إن “التربية البدنية تحولت إلى صراع بين مجموعة من اللوبيات وتحولت الرياضة إلى منطقة صراع وتم تأجيج الأوضاع من قبل جهات معلومة، هي رياضة وليست سلعة، كلما تنظم مقابلة تتحول إلى حلبة صراع، ما حدث مؤخرا عار على الرياضة التونسية، في السنوات العشر الماضية سالت الدماء في الملاعب بسبب الصراعات الجهوية، لا بد من اتخاذ القرارات اللازمة، ومن يعتقدون أنهم يتخفّون وراء جمعيات للهروب من العقاب سيتم تطبيق القانون عليهم، إذا وصل الأمر إلى إزهاق الأرواح في الملاعب فلا ضرورة لها”. وأضاف سعيّد “يريدون أرباحا مالية وسياسية ويشجعون على الاستثمار في الدم وما حدث مؤخرا غير مقبول. إذا تحولت المقابلات إلى تصفية حسابات بين مجموعة من اللوبيات فإن ذلك لم يعد رياضة، ما حدث ليس بريئا وليس طبيعيا”. وسبق أن شهدت مباراة الاتحاد المنستيري والنادي الأفريقي ضمن الجولة العاشرة من بطولة كرة السلة أحداث شغب ومناوشات، توقفت إثرها المباراة لدقائق قبل أن يتم استئنافها. وتعود أسباب المناوشات إلى بقاء العديد من المشجعين خارج قاعة محمد مزالي بعد أن تم رفض السماح لهم بالدخول، وهو ما جعل الجماهير المتواجدة داخل القاعة تحتّج مطالبة السلطات الأمنية والمشرفين على التنظيم بالسماح لهم بالدخول، وفق ما أوردته إذاعة محلية. مكسب للرياضة Thumbnail شهدت مباراة قوافل قفصة وترجي جرجيس في إطار الجولة 16 لبطولة الرابطة المحترفة الثانية لكرة القدم إصابة مدرب ترجي جرجيس قيس الزواغي في رأسه بعد إلقاء القوارير والحجارة من طرف جماهير الفريق المحلي القوافل عند الدقيقة 50 عندما كانت النتيجة تشير إلى تقدم الضيوف بهدف لصفر. وطالب المسؤولون في الترجي الجرجيسي الحكم محرز المالكي بتطبيق القانون وإيقاف اللقاء، لكنه قرر مواصلة المواجهة التي انتهت بالتعادل بنتيجة هدف لمثله. وفي 31 مارس 2018، غرق مشجع النادي الأفريقي عمر العبيدي في مياه وادي مليان (جنوب العاصمة) “بعد إجباره من الشّرطة على القفز فيه” إثر مباراة كرة قدم، وفق فريق الدفاع، وهو ما نفته السلطات آنذاك. هل تمنع الجماهير من الدخول إلى الملاعب مجددا هل تمنع الجماهير من الدخول إلى الملاعب مجددا وأطلق ناشطون بمواقع التواصل الاجتماعي حملة بعنوان “تعلّم عوم (السباحة)” في أبريل 2018، إثر غرق العبيدي، وسط مطالبات من جهات حقوقية ومدنية باعتماد 31 مارس من كل عام يومًا وطنيًا لمناهضة “الإفلات من العقاب”. وحسم القانون الانتخابي الجديد الذي أقره الرئيس سعيد الجدل حول الجمع بين تولي منصب رئاسة جمعية أو هيكل أو هيئة رياضية، وعضوية البرلمان، ما أعاد إلى الواجهة قضية التداخل بين السياسة والرياضة. واعتبر وزير الشباب والرياضة أن “الفصل 20 من القانون الانتخابي يعد خطوة إيجابية لوضع حد لظاهرة الجمع بين السياسة والرياضة في تونس، والفصل بين الدولة والرياضة”. وقال دقيش على صفحته الخاصة على فيسبوك “القانون الجديد هو مكسب آخر يضاف إلى الرياضة التونسية. من المهم جدا تحييد الرياضة عن السياسة والفصل بينهما. لن يكون هناك منذ الآن مجال للجمع بين صفة المسؤول الرياضي وصفة عضو بالبرلمان. تونس فوق الجميع”. وكانت حركة النهضة أول من فتح الباب عام 2011 لدخول عدد كبير من الوجوه الرياضية على غرار رؤساء النوادي وأعضاء عدد من الاتحادات الرياضية إلى الساحة السياسية.
مشاركة :