أطفالٌ بالعشرات، أطفالٌ بالمئات، أطفالٌ في كل مكان، أكبرهم لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره وأصغرهم لا يعدو أن يكون في السادسة وحتى الخامسة.. كلهم مصطفون بنظام، وجوههم مكسوة بالسخام وغبار المداخن والطرق، يحمل كلهم بين يديه الذابلتين طبقًا صغيرًا ينتظر الطعام الذي لم تذقه معدته منذ الأمس، وفي النهاية يحلّ دوره أخيرًا ويُصب الحساء الشبيه بالماء في طبقه، مع قليل جدًا من الخضر التي يستحيل معرفة صنفها، وإن كان محظوظًا فسوف يفوز بشريحة من خبز يابس جاف، كان المرق يعُد بقطعة لحم متناهية في الصغر ليُصنع الحساء الذي سيكون غذاء مئات من الأطفال أجهدهم العمل دون كلل لأربع وعشرين ساعة متواصلة.. هكذا كان أطفال لندن القرن التاسع عشر، في خضمّ الثورة الصناعية العظمى التي كانت تعبر بها بريطانيا وفي ذروة معمعة اكتشاف الفحم، وفي وقت كانت الأسرة الواحدة تبلغ العشرة أفراد أو أقل أو أكثر كان مصير معظم هؤلاء الأطفال هي مصانع لندن العملاقة والتي كانت تبتلعهم بالمئات ويجري عليهم نظام السخرة بالعمل المتواصل دون راحة أو مراعاة لأدنى حقوق الإنسان، وكنتيجة طبيعية العديد من هؤلاء العبيد الصغار لم يُكتب لهم العودة قط إلى أحضان أسرهم مجددًا وانتهت حياتهم القصيرة وسط الدخان وعشرات الأجساد الأخرى التي كانت تحوط بهم. إن الظروف الاقتصادية التي يمرّ بها البشر تختلف، وتدني الأخلاقيات أو رقيها مربوط غالبًا بالمستوى المعيشي، فحينما تعطي للإنسان خبزه وماءه وحقوق إنسانيته وتسمح له أن ينام قرير العين وأطفاله بطونهم ملأى حينها يمكنك أن تنتظر منه أن تزهر إنسانيته فنونًا وعلمًا وخُلُقًا ومنابعَ شتّى، وفي المقابل حين يكون كل همه هو كيف سيوفر لقمة تسد رمق صغاره وبطنه تقرّ ليل نهار جائعة ظمأى فلا تنتظر منه أن يغزل شعرًا أو أن يبدع فنّا.. كل هذا معروف واضح، لكن هناك شيء سجله التاريخ دومًا عبر عمره الطويل وهي أن المسلمين دائمًا دائمًا تُحفظ إنسانيتهم في ظل أقسى الظرف وأجشعها، في الجانب الآخر راقب أي مجتمع غربي ممن يتشدقون بالحضارة والرقي، راقبهم في غضون كارثة تلقي عليهم بظلالها وتأمل كيف تنسلّ منهم كل الإنسانية والحضارة التي لطالما ادّعوا امتلاكها! هكذا كانت لندن في القرن التاسع عشر، وحينما كان ملّاك المصانع يفد إليهم مئات الأطفال يوميًا ماكان يفرق لديهم موت عشرة أو عشرين أو ثلاثين! وهكذا كُتبت عشرات الروايات التي أهرقت على الورق معاناتهم، وكان من أشهرها رواية الإخوة السود للكاتبة الألمانية ليزا تيتزنر، والرواية تشير بالطبع للأطفال الذين كانوا يعملون في تنظيف المداخن لعلية القوم ويُمسون سودًا وقد لوثهم الرماد والأوساخ، وبالطبع قامت اليابان كعادتها بتحويله لمسلسل كرتوني رائع دُبلج بعنوان عهد الأصدقاء وكم بكينا على شخوصه وأحداثها في طفولتنا. وحينما نتحدث عن لندن إبان ثورتها الصناعية يبرز فورًا لنا بالطبع الاسم الإنجليزي العبقري تشارلز ديكنز، وديكنز لا يعني المعاناة فحسب بل يحمل معاني وصورًا وبحورًا ومنافذ واسعة لا تنتهي، ديكنز نقم بشدة على كل الظلم الذي لطالما لحق بفقراء لندن وأوردها المهالك وأذاقهم من الذل والهوان ومرارة الفقد أشكالًا وألوانًا، وهكذا ولدت للنور روايته الخالدة أوليفر تويست، الطفل البريطاني الأشهر، الطفل الذين سترافقه خطوة بخطوة بداية من دور الأيتام الشنيعة ومرورًا بالمصانع العملاقة المظلمة المخيفة بصوت آلاتها الذي يصمّ وبالعمل غير الآدمي الذي كان يذيب أجسادهم الصغيرة ثم بالجوع وما أدراك كيف يصف ديكنز الجوع وهو ينخر أوليفر حتى العظم ويمتص ماء الحياة من روحه، لكن معاناة أوليفر لا تقتصر على المصانع وتمتد لتشمل البيوت التي لا يرحم أيها الأطفال أيضًا، الرواية تحكي عن حالة لندن العامة وقتها، والآثام التي كانت تقع تترا ليل نهار، ووسط هذه الظلمة لم تزل هناك قلوب رحيمة عامرة بالشفقة سخية الدمع على المآسي التي كانت تشهدها، وينتهي إلى هذه القلوب العطوفة مصير الطفل الشريد أوليفر تويست، في نهاية مريحة وسعيدة تتركك مطمئنًا حالمًا، لكن بالطبع ما كانت هكذا نهاية مئات الأطفال حينها، ولا تزال صورهم التي حُملت لنا نحن أبناء القرن الحادي والعشرين صادمة وغير مُصدقة ومخيفة لأقصى حد. وككلّ رائعات ديكنز تم تبني رواية أوليفر تويست لعشرات الأعمال التليفزيونية والسينمائية، أشهرها الفيلم الصادر عام «1948» والذي أدرج ضمن أعظم الأعمال البريطانية. وهناك الفيلم البريطاني الموسيقي أوليفر، الذي أنتج عام «1968» وحقق أرباحًا هي الأضخم من نوعها وأخرجه السير كارول ريد، وقد خلد الفيلم صورة الصبي اليتيم الأشقر الذي يحمل طبقه في انتظار حصته من الطعام في أذهان أجيال إثر أجيال، ترشح الفيلم بعدها لإحدى عشر جائزة أوسكار فاز بست منها، وفي عام «2007» أنتج مسلسل تلفازي قصير حقق نجاحًا ساحقًا هو الآخر وفاز بأوسكار.
مشاركة :