وأخيراً بعد نقاش طويل تخلله استقالة وزيرة العدل كريستيان توبيرا احتجاجاً، أقر البرلمان الفرنسي، بأغلبية ضئيلة، مشروع التعديل الدستوري الذي تقدم به الرئيس هولاند في سياق مكافحة الإرهاب. كان هناك مؤيدون ومناهضون، من كلا الحزبين الكبيرين، لبعض مواد هذا التعديل الدستوري لا سيما تلك المتعلقة بإسقاط الجنسية الفرنسية عن مزدوجي الجنسية الذين يثبت تورطهم في الإرهاب. ومن المهم جداً للقارئ العربي الاطلاع على النقاش الذي دار حول هذا التعديل. بعد عمليات ١٣ نوفمبر/تشرين الثاني الماضي الإرهابية في باريس، أعلن هولاند عن نيته القيام بإجراءات أمنية وقانونية ودستورية وغيرها لمكافحة الإرهاب بالتوازي مع إعلان حالة الطوارئ. من هذه المقترحات تعديلات دستورية فتحت نقاشاً سياسياً ودستورياً وأكاديمياً غنياً. في العمق أيدت الأحزاب اليمينية مشروع الرئيس الاشتراكي من دون أن تذهب بعيداً في تأييدها العلني، في حين أن اليسار انقسم بين من يرى ضرورة الالتزام بالتوجهات الرئاسية ومن يعتبر القانون المقترح متناقضاً مع روح الجمهورية ويخشى من أن يؤدي تطبيقه إلى خلق فئة من الناس عديمي الجنسية. والحقيقة أن إجراء نزع الجنسية موجود، نظرياً على الأقل، منذ إلغاء العبودية في العام ١٨٤٨، ومنذ العام ١٩٢٧ كان يمكن نزع جنسية أي شخص يحكم عليه "بفعل يشكل اعتداء على المصالح الوطنية الأساسية"، و"لأفعال إرهابية منذ العام ١٩٩٦ ". وبقي هذا الإجراء محصوراً ببعض الفرنسيين بناءً على معايير دقيقة، وهي أن يكون قد وُلدَ في الخارج وحصل على الجنسية الفرنسية منذ أقل من عشر سنوات (١٥ سنة بالنسبة للإرهابيين). وبذلك فإن عدد الذين طبق عليهم إسقاط الجنسية لم يصل عددهم إلى عشرة أشخاص منذ بداية العام ٢٠٠٠ إلى اليوم. وتقول الحكومة الفرنسية إنه لا يمكن نزع الجنسية عمن لا يملكون سوى الجنسية الفرنسية فقط لأن هذا يولد أناساً عديمي الجنسية. وفرنسا ملتزمة بمعاهدات دولية تمنعها من التسبب بإنتاج فئة من الناس عديمة الجنسية (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان للعام ١٩٤٨، اتفاق نيويورك العام ١٩٦١، اتفاقية مجلس أوروبا حول الجنسية العام ١٩٩٧). وهكذا فالحكومة مجبرة على اقتصار تطبيق إسقاط الجنسية على من يحمل جنسية أخرى إلى جانب الفرنسية. لكن ليس هناك من إحصاءات دقيقة لمزدوجي الجنسية، ذلك أن لا شيء يجبرهم على الإعلان عن جنسيتهم الأخرى لدى الإدارة الفرنسية. والإحصاء الأخير جرى في العام ٢٠٠٨ وقدّر نسبة هؤلاء بخمسة في المئة من الشعب الفرنسي، من الفئة العمرية بين ١٨ و٥٠ سنة (أي أكثر بقليل من ثلاثة ملايين شخص)، لكن ليس من المعروف كم منهم وُلدَ فرنسياً في الأصل. ومن أصل ١٥ إرهابياً ضربوا فرنسا مؤخراً فقط اثنان يحملان جنسية مزدوجة. لكن هل يشكل نزع الجنسية عنصراً رادعاً للإرهابيين؟ الحكومة نفسها تعترف بأن هذا الإجراء رمزي فقط، فللأمة الحق في أن تسقط جنسيتها عمن يخونها بهذا الشكل والمستوى. اليسار الراديكالي مقتنع تماماً بأن هذا الإجراء لن يردع الإرهابيين، فقليل منهم ينوي البقاء في فرنسا ومنهم من يسعى للموت شهيداً أو الهرب للعيش في سوريا أو العراق. لا أحد منهم يهتم للجنسية الفرنسية. يجيب اليمين بأنه إذا تم إلقاء القبض على إرهابيين أحياء فإن نزع الجنسية هو الوسيلة القانونية الوحيدة لطردهم من فرنسا بعد محاكمتهم، ذلك أن الاتفاقيات الدولية تمنع على أي بلد طرد أحد رعاياه خارج البلاد وبالتالي فمن أجل طرد مواطن فرنسي خارج فرنسا لا بد من نزع الجنسية عنه أولاً. كما أن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان منعت باريس عدة مرات من طرد جهاديين إلى بلادهم الأصلية بذريعة أنهم هناك قد يتعرضون إلى معاملة غير إنسانية. لكن فرنسا تستطيع استباق المحكمة وطرد الإرهابيين قبل صدور الحكم. لكن في هذه الحالة قد تقوم المحكمة بإصدار الحكم ضد فرنسا بعد قيامها بالفعل. هناك آراء تقول إنه حتى لو تعذر طرد الإرهابي فإن إسقاط الجنسية عنه يسمح بوضعه تحت الإقامة الجبرية لفترة غير محددة وتجريده من كل حقوقه السياسية (وهذا غير ممكن تطبيقه على الفرنسيين إلا في حالة الطوارئ). ويتساءل القاضي المعروف مارك تريفيديك، المتخصص بشؤون الإرهاب: ماذا يحدث لو أن البلد الآخر الذي يحمل الإرهابي جنسيته رفض استقباله؟ لنضع أنفسنا في التصور المعاكس: إذا أرادت الجزائر مثلاً طرد أحد الإرهابيين إلى فرنسا بذريعة أنه يحمل الجنسية الفرنسية وقد تم تجريده من الجنسية الجزائرية؟ وللتذكير ففي العام ٢٠١٠ عارض مانويل فالس وفرانسوا هولاند المشروع نفسه الذي كان قد تقدم به الرئيس ساركوزي في حينه بحجة أن ساركوزي يخلط ما بين الإرهاب والأجانب والتناقض مع التقاليد الجمهورية التي تحمي المواطنين. ترد الحكومة بأن الظروف تغيرت وفرنسا باتت في حرب مفتوحة مع الإرهاب. معارضو المشروع يقولون بأنه يؤدي إلى خلق جنسية بأبعاد مختلفة. سيكون هناك الفرنسيون الحقيقيون والفرنسيون متعددو الجنسية أي غير الحقيقيين، وبذلك فهو يضعف أحد أكبر المبادئ الجمهورية وهو حق الأرض الذي لا يقيم أي فرق بين المواطنين المولودين على الأرض الفرنسية، وسيقيم حاجزاً بين أجنبيي الأصل وفرنسيي الأصل. وهو يتعارض أيضاً مع حق الدم لأن الفرنسي-النروجي، على سبيل المثال، المولود في فرنسا من أبّ فرنسي ويحمل الجنسية النروجية من والدته يمكن أن تنزع عنه الجنسية الفرنسية. وهكذا فإن التعديل الدستوري قد يصيب أيضاً بعض فرنسيي الأصل.
مشاركة :