تكتنف قصيدة الشاعر محمد الثبيتي مسحة حنين شفافة إلى المكان، باعتباره الرحم الرمزي والمستقر الأخير لكينونة الشاعر الباحث عن الدفء والألفة والأنس. ذلك المستقر "الرحم" الذي يقضي الشاعر في نشدانه العمر الشعري كله، في محاولة منه لإبعاد الوحشة التي تتراءى كالذكريات المُسنة. ذكريات تتقادم أوقاتها كلما ابتعد الشاعر عن مكان البدايات الأولى، وكأن روحه مغروسة في تربته كالشجرة التي تتشبث بجذورها في شرايين الأرض التي انشق عنها إيقاع أشعاره المترقرق في الصحارى، ترقرق ريح على قافية. فالمكان هو الملاذ الأول والأخير للروح التي تتقاذفها طرقات الضياع البعيدة. الحنين إلى المكان، هو توق إلى الماضي البعيد بكل ذكرياته المحمولة كالنعوش على أكتاف الغرباء إلى مقبرة الحياة التي تولد كل يوم ولا تبلى مراثيها. فالشاعر يؤكد لنا دائما أن المكان قطعة من لحم ودم. وما فيه قلب يتدفق بالدم باستمرار ليعيد إليه الحياة التي انصرمت: يقول الشاعر: "وأفقت من تعب القرى/ فإذا المدينة شارع قفر/ ونافذة تطل على السماء/ وأفقت من وطني فكانت حمرة الأوقات مسدلة/ وكان الحزن متسعا لأن نبكي/ فيغلبنا النشيد/ وتسيل أغنية بشارعنا الجديْد". المفارقة المرة التي ترهق إحساس الشاعر، هي المقارنة بين مناخ القرى والمدينة التي تمثل صورة الاغتراب بالنسبة لصوت الشاعر الراخم في إنشاد مراثيه. فكأن الشاعر وريث معلقة الغربة في مطلعها الطللي المحمول على الحسرات والشجن والندب الراثي لطفولة القرى القديمة وشيخوخة المدينة الحديثة في تطاولها العمراني الذي يصل إلى مصاف السحاب. إلا أن نفس الشاعر التي ترزح تحت عبء هذا الشعور الثقيل بالاغتراب، ترجع القهقرى إلى مفردات الطبيعة والمكان الأول، كي تحنو على محنتها وتضمد جراحها النازفة: "وأمرّ ما بين المسالك والممالك/ حيث لا يمٌّ يلمُّ شتات أشرعتي/ ولا أفق يضمُ نثار أجنحتي/ ولا شجر يلوذ به حمامي/ وأجوب بيداء الدجى/ حتى تباكرني صباحات الحِجَا/ أرقاً وظامي". إن افتقار روح الشاعر إلى الأنس والنياعة والاخضرار تحيله إلى مخاطبة المكان القديم حتى لو كان صورة صخرية تخددها الرياح، أو تجريد جريح للقفار، لأن برهة وردية تتفتح في إيقاع الشاعر ونبرته الحزينة وداخل سيرورة الإنشاء التصويري حين يأتي ذكر الديار "المكان المفقود أو المحلوم به" عبر استحضار مكونات المكان الأول وإضاءته بضوء الشعر المجروح على المستوى الحلمي. إن رمزية النخيل والبيداء وما تحيل إليه المسالك والممالك ليس إلا نشداناً للخلاص من المكان المغلق والانتماء إلى الإيقاع الحركي للحياة، وبالتالي الخلاص من قبضة اليباس والتصحر الروحي، ويبدو أن الأماكن لا تموت حتى ولو تصرمت أوقاتها وترحّل عنها ساكنوها، بل كلما أوغل ساكنوها بالرحيل عادت تصاويرها إلى خيال الشاعر، وانتظمت في شريط حريري من الرموز يمرُّ عبر شاشة الذاكرة. وكل ظهور لصورها المفقودة هو نوع من وصل خيوط القطيعة التي تتكرر عبر صحراء الشاعر بالرحيل والهجران، يقول: "متى ترحل القافلة/ سترحل تواً/ فهيء لنفسك زادك والراحلة/ لقد نامت القافلة/ ونامت لها أعين الراحلين/ وأقفر وجه الطريق من السابلة". هو هاجس الرحيل عن المكان أو التغريب الذي يصيبه بفعل التحديث والحضارة، هو الذي يهدد تماسك كينونة الشاعر واستقرارها. أما ملاحقة الزمن الهارب، فتتمثل بقوة في قصائد الشاعر التي تمثل راسب النزوع لكل ما هو تراثي يتبين ذلك من سؤال الشاعر عن القافلة والراحلة الذي هو بمثابة ردّ فعله الذاتي على مصادر اللا أمن والتخوّف من المجهول وسرعة زوال الإنسان. فكأن الراحلة هي أمان الشاعر من أهل الأرض، وتهيئة الراحلة وسيلة دفاعية أنتجتها القصيدة العربية في لحظات ازهرارها وتوهجها وكمالها. هناك دائما غائب في نص الثبيتي، وهذا الغائب المضمر يحرك حجرة الحنين إلى المناجاة والإنشاد، يقول: "هجرناها/ ديار سلمى وملعبها ودنياها/ واخضلال أغانيها/ التي كانت ترددها/ والنغمة البكر/ كم نحن افتقدناها". إن الحنين بحسّه الغنائي وإشباعه الشجني، يُلطّفُ تباريحَ الشوق ويجعلها مغنّاة وموقّعة، وهي السمة الأهم في الشعر الجميل، وفي تجربة الشاعر محمد الثبيتي.
مشاركة :