الإبداع لا ينتشر بلا نشر (1-2)

  • 5/16/2023
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

الإبداع والفكر والثقافة مرادفات يكاد الفرد في حياتنا هذه أن يعتبرها كماليات وترف، بل للبعض ملل ومزايدات ليس لها فائدة، إلا أنها في الواقع هي سبيل السعادة، فلا نهوض لأية أمة بمعزل عن الفكر وتعاطيه. ومن هنا انطلقت أهمية نشر الفكر والإبداع والعلم بتدوين الكلمة وحفظها في كتاب يقدم للقارئ ويسافر بين القارات عبر المكتبات ومعارض الكتب. عانيت كثيرا كغيري من أزمات بالنشر والتوزيع في ظل تحديات كثيرة فرضتها علينا جميعا حضور الكتاب الرقمي، بجانب أزمة التلقي العربي بفعل انخفاض المقروئية خاصة في السنوات الأخيرة بفعل تأثيرات ما شهدته المنطقة العربية من صراعات طائفية ومذهبية سياسية، ومحاولات تقسيم وتجويع الشعوب، مما أدى إلى تراجع التلقي الإبداعي والفكري لصالح الصراعات السياسية والحروب في المنطقة التي تبحث شعوبها عن الأمان توفير رغيف الخبز. ولا شك أن الأديب لا يقف في برج عاجي معزولا عن قضايا أمته الرئيسة، بل هو جزء أصيل منها ويساهم بطريقته في مواجهة تحديات هذه المرحلة الصعبة التي تمر بها دولنا العربية، غير أن المبدع يقاوم بسلاح الكلمة ويناهض فكر التشدد والإرهاب الذي أصاب أمتنا في مقتل، بتكريس ثقافة الوسطية بالفنون الرفيعة التي تقاوم الموت بالانتصار لحق الإنسان في حياة كريمة اختارها الخالق العظيم ليعيش على أرضه معززا مكرما. عندما أنظر لواقع أمتنا العربية اليوم أراها كما ترونها مثلي في أوهن حالاتها نتيجة غياب الاهتمام بالثقافة والإبداع، وذلك مقارنة بما كانت عليه في الأزمنة القديمة. ففي العصور القديمة أنجزت منطقتنا العربية حضارات لا تزال أثارها خالدة باقية وقادرة على إصابة شعوب الألفية الثالثة على تقدمها التكنولوجي فائق السرعة بالدهشة والانبهار. والمدهش أن التقدم الحضاري لشعوب منطقتنا العربية قد ارتبط منذ القدم بصناعة النشر حيث ازدهرت صناعة النشر في مصر القديمة وفي العراق القديم وبلاد الشام. ففي مصر الفرعونية، برزت كتب العلوم الدينية، وكان كتاب «الموتى» أشهر كتاب ديني في العالم القديم؛ كما غطى العلوم الاجتماعية والإنسانيات، والعلوم الطبيعية والتطبيقية من رياضيات وفلك ونبات وكيمياء وغيرها، كذلك غطى الفنون بكافة أشكالها وفروعها. وكان الكتاب المصري القديم يكتب وينشر على ورق البردي، ويوزع على نطاق واسع في مصر ودول حوض البحر الأبيض المتوسط، ولقد تمت صياغة الكتاب المصري بلغات عديدة: الهيروغليفية – الهيراطيقية - الديموطيقية - القبطية -، فمصر هي أرض الكتابة الأبجدية. وفي العراق القديم الذي اخترع الكتابة المسمارية بلد العلم و العلماء، ازدهرت صناعة النشر في زمن السومريين والأكاديين والبابليين والأشوريين وتناولت كتبهم موضوعات الدين والعلوم الاجتماعية والإنسانية وأشهرها كتاب القانون خاصة وعلى رأسها قانون حمورابي، الذي اتُّخذ أساسًا للقانون الروماني الذي ساد في قوانين العالم. وبينما سجل المصريون القدماء مؤلفاتهم علي ورق البردي، فان عملية النشر في العراق القديم قد جرت باستخدام ألواح الطين بالكتابة المسمارية. بينما عرف المسلمون صناعة النشر والتي كانت تعرف حينذاك «بالوراقة» في منتصف القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي) مع ازدهار الدولة العباسية، وكانت أسس ازدهار هذه الصناعة التي استمرت على مدى خمسة قرون هي: التدوين وكتابة الكتب والعلوم التي تنتقل شفاهية بين الناس. والترجمة: كانت الترجمة تسمى عند المسلمين النقل، والمترجم يقال له الناقل؛ فاهتمت الدولة العباسية بترجمة الكتب اليونانية واللاتينية والفارسية والهندية والمصرية القديمة والسريانية إلى اللغة العربية. وكذا التأليف: حيث قام المؤلفون المسلمون بتمثل العلوم الأجنبية وامتصاصها والتأليف فيها، بجانب التأليف الأصيل في العلوم العربية والإسلامية؛ أي في علوم الدين واللغة والأدب والتاريخ وغيرها. على هذه الأسس الثلاثة قامت صناعة النشر عند المسلمين (الوراقة)، وأصبح هناك مراكز للنشر في المدن الإسلامية المختلفة، وهي في نفس الوقت مراكز للتعليم والبحث العلمي وانتشرت دور النشر في المدن الكبرى الإسلامية (حوانيت الوَرَّاقين)؛ ومما يدل على ازدهار صناعة النشر (الوراقة) أن ابن النديم (محمد بن إسحاق النديم) قد حصر في كتابه(الفهرست) نحو 8500 كتاب نشرت في القرون الأربعة الأولى للهجرة، كما حصر (حاجي خليفة) في كتابه (كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون) نحو 20000 عنوان بمختلف فروع المعرفة حتى القرن الحادي عشر الهجري?(السابع عشر الميلادي). لقد قدر عدد المجلدات التي نشرت في الفترة بين القرن الثاني الهجري والثالث عشر الهجري (عصر الخطاطة والوراقة الإسلامية) بنحو خمسين مليون نسخة، إلا أنه لم يصلنا منها إلا نحو خمسة ملايين فقط؛ حيث أهلكت عوامل عديدة الجزء الأكبر مما نشره الوراقون المسلمون في العصر الإسلامي. وانهارت صناعة النشر عند المسلمين باجتياح المغول والتتار، لشرقي العالم الإسلامي وسقوط بغداد سنة 656 هجرية (1258 ميلادية).. يتبع (الراي)

مشاركة :