لكي لا نكون بلا وطن (1 ـ 2)

  • 1/25/2018
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

لا يتردّد كتاب الرأي عادة على مبنى الصحيفة، فهم لا يمارسون العمل الصحافي الذي يتضمن انتقاء الخبر المناسب، وإخراج الصفحة، وتصحيح اللغة والإخراج. لكني بدأت أتردّد على مبنى القبس منذ أكثر من 15 سنة. وقد تعلمت كثيرا من زياراتي. ولعل أهم ما تعلمته من هذه الزيارات هو أهمية اللغة، او بالأحرى التمكّن منها في العمل الصحافي. فالعاملون بالصحافة بشكل عام في كل العالم متمكّنون من اللغة. بل هناك كتّاب؛ مثل غسان شربل، يجذبك لقراءة مقاله السياسي لشاعرية لغته. وتعلمت كثيرا من زياراتي لمكتب المرحوم سهيل عبود، الذي أعتبره خبيرا في الشأن الكويتي. وتعلّمت من زياراتي كذلك لمكتب الأخ فؤاد حلاوي، كما أتعلم من زياراتي لمكتب الأخ حمزة عليان، ومكتب الدكتور جمال حسين. فاللغة هي دائما وسيلة للتميّز في العمل الصحافي. أما زياراتي لمكتب سعدية مفرح، في القبس فكانت دروسا للاطلاع على الأدب الكويتي المعاصر، فعندها قابلت وأعجبت بسعود السنعوسي قبل أن ينشر «ساق البامبو»، أي قبل أن يشتهر على النطاق العربي، ومنها بدأت أطلع على أعمال روائيين كويتيين، مثل بثينة العيسى وباسمة العنزي، وطالب الرفاعي. ولعل أهم ما تعلمته أو عرفته هو حجم الضغوط التي يتعرّض لها مسؤول الصفحة لتخرج بالشكل والمضمون المناسب. وعندما كنت أزور منطقة الصحافة، كنت أحيانا أزور مبنى «الطليعة» لألتقي في «ديوان الطليعة» الإخوان عبدالله النيباري وأحمد النفيسي والدكتور أحمد الخطيب. وفي معظم الأحيان يكون الحديث حول السياسة والاقتصاد. وأذكر أنه في حوالي عام 2004، وجدت أمام الدكتور أحمد الخطيب كتاب The Ornament of the World أو «فسيفساء العالم» للدكتورة ماريا روزا مينوكال، فأخذت الكتاب وتصفحته وبعد دقائق علقت «يبدو أن هذا الكتاب قيّم يا دكتور». فكتبت اسم الكتاب والمؤلف لكي أحصل على نسخة مستقبلا، إلا أن الدكتور أحمد خاطبني: «تقدر أن تأخذه، فقد انتهيت من قراءته». ومنذ ذلك التاريخ وبعد أن قرأته بأيام قليلة، أصبح هذا الكتاب صديقا لي، وكثيرا ما ألجأ إليه لأوضح القيمة الإنسانية والمعرفية والعلمية والفلسفية للتراث الإسلامي في أسبانيا. وألجأ إليه اليوم لأوضح كيف كانت اللغة العربية في أسبانيا لغة العلم والثقافة والأدب ــــ ليس للمسلمين فقط ــــ وإنما للمسيحيين أيضا. كتاب ماريا مينوكال ــــ أستاذة الأدب الأسباني في جامعة ييل في الولايات المتحدة ــــ ينقلنا إلى قرطبة في القرن التاسع الميلادي في وقت كانت المدينة مزدهرة بثقافة غنية وبتسامح رائع، جمع المسلمين واليهود والمسيحيين. فالكاتبة تنقل عن المستشرق الهولندي دوزي، ما نقله من شكوى لمطران قرطبة، ينتقد فيها أبناء رعيته في الكنيسة الكاثوليكية لإهمالهم اللغة اللاتينية، وإقبالهم على اللغة العربية. يقول مطران قرطبة الفارو في عام 850 ميلادي: «إن إخوتي في الدين يتمتعون بقراءة الأشعار والقصص العربية، وبدراسة مذاهب رجال الدين والفلاسفة المسلمين، لا ليدحضوها، بل ليكتسبوا أسلوبا عربيا أنيقا سليما. أين تجد اليوم امرأ خارج سلك الكهنوت يحسن قراءة الشروح اللاتينية على الكتاب المقدس؟ واأسفاه، إن الشبان المسيحيين المتميزين بالمواهب، لا يعرفون إلا اللغة العربية وآدابها. فمن بين ألف منهم لا تكاد تجد واحداً يستطيع أن يكتب لصديقه رسالة بلغة لاتينية سليمة. ولكن إن دعا الأمر إلى الكتابة بالعربية، وجدت جمهورا من الناس يحسنون التعبير بأقصى درجات الأناقة، وينظمون الأشعار بدرجة من الفن تتفوق على العرب أنفسهم». وأود أن أوضح هنا أن صيغة الترجمة العربية لهذا المقطع هي للدكتور عبدالواحد لؤلؤة، حيث وجدت النص مترجما إلى العربية في كتابه «الصوت والصدى». والأستاذ لؤلؤة كان يدرِّس اللغة الإنكليزية في جامعة الكويت لأكثر من عشر سنين في الستينات والسبعينات من القرن الماضي. وكتاب ماريا مينوكال، أصبح مرجعا مهما للمستشرقين المنجذبين للتراث العربي الإسلامي في أسبانيا. فعندما قابلت في أغسطس الماضي الدكتور روفن فايرستون، أستاذ الأدب «السامي» في جامعة جنوب كاليفورنيا أشرت في لقائي الى كتابها، ولم أكن أعرف أنه مطلع عليه. فأخبرني أنه يعرفها عن قرب وأنه تم تحويل كتابها إلى فيلم وثائقي يوضح تسامح المسلمين في الأندلس. ثم أخبرني أنها انتقلت إلى رحمة الله منذ حوالي خمس سنوات. بالطبع أنشر هذا النص لمطران قرطبة، تأسيا على ما وصلت إليه اللغة العربية من تدهور بين النخبة والجمهور، فنحن نعرف أنه تشكّلت في مجتمعنا «نخبة» لا تتحدث ولا تكتب إلا باللغة الإنكليزية، وإلى حد كبير لا أكتب هنا لكي ألوم هذه النخبة. فأنا ساهمت بتشكلها بأن أرسلت ولدي وابنتي إلى مدرسة إنكليزية خاصة. ومن تربية أبنائي، عرفت لماذا يقبل الأطفال على اللغة الإنكليزية وينفرون من العربية. فاللغة الإنكليزية تدرّس بأسلوب جذاب يشجع الطالب على القراءة، في حين وضع منهج اللغة العربية ينفر التلاميذ من لغتهم. وزرعت فيه كل الإمكانيات المسببة لضجر الطالب. وتجربتي في تدريس أبنائي، دفعتني لأقابل الصديق الدكتور محمد الرميحي، الذي كان آنذاك مديرا للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. فتفهّم الدكتور الرميحي حماستي وشكّل لجنة الكتاب والقراءة ضمن لجان المجلس لتدرس الوسائل وتقدم الاقتراحات لتشجيع الطلبة على القراءة باللغة العربية. وكنت رئيسا لهذه اللجنة لسنتين. وخلال عملي مستشارا لوزير التربية السابق الدكتور بدر العيسى، تبنّى الوزير اقتراحين تقدمت بهما، الأول لإضافة القصة لمنهج اللغة العربية، والثاني لإصدار صحيفة علمية إلكترونية باللغة العربية، يساهم الطلبة في تحريرها. وقد قطعنا مراحل كبيرة في تحقيق هذين الهدفين، لكن الوزير الذي خلفه الدكتور محمد الفارس، أوقف المشروعين على الرغم من مقابلتي الشخصية له للاهتمام بهما، وعلى الرغم من إرسال خطابين لتذكيره. د. حامد الحمود

مشاركة :