لست عضواً في جمعية الإصلاح ولم أتجول في مبناها الضخم في الروضة، لكنني أقرأ ما أجده مفيداً من إصداراتها، وأتعاطف مع جوهر الأهداف التي تسعى إليها، وأنتقد بشيء من التحفظ الانغلاق الفكري والتضييق الثقافي اللذين يحيطان بأنشطتها بطريقة تؤشر لمخاوفها من الانفتاح ومن تناول القضايا التي يحتاج العالم العربي إلى الخوض فيها، وأبرزها الانفتاح السياسي وتعميق مفاهيم الحكم الراشد المستند إلى الديموقراطية، وحرية واحترام الرأي، وتقدير الاجتهاد نحو التجديد والابتكار، والإيمان بفاعلية المواهب واحتضانها. اكتفت الجمعية بمواصلة السير في الخطوط المألوفة، مبتعدة عن قضايا الساعة، ومرتاحة للنهج الهادئ بحيادية في تناول المستجدات، وحذرة من الانزلاق في مواجهات، كما أقدر شخصياً رئيسها الشيخ الفاضل خالد المذكور، وأجزم بأن الجمعية ارتاحت لتفضيله لأسلوب الهدوء من دون مواجهات، وأن إملاءات الدعوة ونعومة الاقتراب منها لا تحبذان التحرشات والغلاظة في النهج ولا في المحتوى. وأعتقد أن هناك حكمة في تبني اللطافة والمسامحة امتثالاً لتعاليم الإسلام وقيمه العالية، مستذكرين قوله تعالى «وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ».. هذا التمهيد المستخلص من نعم الاعتدال وطيب الحوار وعلو المعاشرة التي تلتزم بها جمعية الإصلاح يكسبها الكثير في سعيها إلى توسيع ساحات التأثير لرسالتها العالية والصافية، لكنني دائماً أنصف قيادة الجمعية في تأكيد نزاهة النوايا عندما ألاحظ اجتهادات بعض نوابها في مجلس الأمة وانحيازهم في الصفوف الأولى لنهج الشعبوية الساعية نحو الاسترضاءات من أجل ترسيخ التصاق كرسي العضوية في أعماق التربة البرلمانية. حقائق الحياة العامة تؤكد أن السياسة مفسدة وتخريب، ولا تتناغم مع مسؤوليات الجمعية، ولا مع قيمها الإنسانية المعروفة، ولا تلتقي مع رسالة الجمعية في الإشادة بالاصطفاف الشعبي الكويتي وفي تعاضده الوطني نحو التطور لجعل الكويت موقعاً للإشعاع الفكري المعتدل تزينه مواهب تتألق بالابتكار والتجديد، هكذا نفهم مضمون الجمعية وجوهر أهدافها. لا توجد صداقات في السياسة ولا مكان للإيثار ولا تسامح عن خطأ متعمد أو بريء، فكل شيء بحسابه لتمكين السياسي من النجاح، ونتذكر أن طغيان الفشل في السياسة يزيد من التصلب ويفجر المكابرة محمولة بالعناد القوي نحو دورة ثانية أو ثالثة، فالسياسة مهنة، لكنها لعبة فيها حيوية لا تنقطع، وسحر آسر نحو الإدامة، وأكثر من ذلك أنها قاتلة لقواعد التواصل، ليس بين الأصدقاء فقط بسبب تباعداتهم الفكرية وتضاد المواقف وعنف المفردات، وإنما بين الإخوان أيضاً بقطع الحبال داخل العائلة الواحدة وتخريب قواعدها. كنت أعرف ثلاثة إخوان في الستينيات من القرن الماضي، واحداً قاضياً في محكمة العدل الدولية اسمه SIR DINGLE FOOT، وهو رجل علم وقانون، كسب ثقة العالم بموضوعيته، وأخاه MICHAEL FOOT، وهو يساري عن حزب العمال، عنيفاً في مداخلاته، وشديداً في مفرداته، قاسياً في خصوماته، وثالث الإخوة أصبح لورد كاردون LORD CARADON، المندوب البريطاني في الأمم المتحدة، ومهندس قرار مجلس الأمن (242) لعام 1967، وكان قبل ذلك حاكماً لقبرص، ويتمتع بالوسطانية الإيجابية، حيث كان لا يتعب من تقديم الأفكار، بحثاً عن حلول سلمية، ولم يكن بين الإخوة الثلاثة تلاق في المواقف، ولا في الانتماء الحزبي، فهم مثل عدد كبير من ضحايا السياسة التي دمرت غريزة التعاطف والتآخي. والحقيقة التي لا بد من الاعتراف بها أن أغلب المنتمين للجمعية من النواب أدخلوا الجمعية في إشكاليات حول مهماتها في مجال الدعوة وتحصين مبادئ الإسلام وحماية الرسالة المحمدية من تطاول الاجتهادات. ومهما سعت الجمعية إلى التوفيق بين مفاهيم ممثليها السياسية وخصائص الرسالة التي تسعى إلى تأكيدها، فإن الواقع يدعم حق المواطنين في استغرابات حول حماس المنتمين للجمعية من الأعضاء في الانضمام إلى مواكب التعسف النيابي ضد اجتهادات السلطة التنفيذية والتصدي لطروحاتها والمشاركة في مشاهد التعالي وظاهرة التصغير تجاه معظم المقترحات التي تطرحها الحكومة، والانخراط في صف التجمع المعارض الذي لن يرضيه شيء يأتي من الجانب التنفيذي مهما كانت أحجام ثمراته. ومهما سعى الإخوة المنتسبون للجمعية إلى تلطيف المفردات وتجميل الطروحات، فلا شك بأن نواب الجمعية دائماً في صدارة المهاجمة المنتقدة، ولم تتأثر سياستهم ولا مداخلاتهم الحادة والثقيلة ضد الحكومة بحجم الإحراجات التي تصيب الجمعية من جراء المنصة البرلمانية الجافة والسلبية التي شيدتها مجموعة الجمعية، فلا سبيل هنا لتجاهل نوع العلاقات بين الجمعية والسلطة التنفيذية في تعاطف بناء وسخي، إيماناً بالقيم العالية التي تتزين بها طروحات الجمعية. وبصراحة، فإن السياسة بقذارتها ورسالة الإسلام بصفائها لا تتوافقان بسبب ألاعيب السياسة، فالنواب المنتمون للجمعية يتمتعون بحصانة ترابطية مع الجمعية ساهمت بنجاحهم، ورغم ذلك فإنهم لا يتفاعلون مع واقع الجمعية في مدخلاتهم، ولا يراعون حساسية العلاقات بين الجمعية والحكومة، ولا يمارسون فضيلة التنبيه للمسيئين لمعاني الديموقراطية في اعتراضهم على ما يفيد مما تطرحه الحكومة من برامج التنمية، مع أن المنطق يستدعي سماع صوتهم دفاعاً عن المحتوى المفيد من مقترحات السلطة التنفيذية بدلاً من الاعتراض وتعطيل الأعمال والمشاركة في المناكفات المحرجة والمسيئة إلى سمعة الكويت ولصورتها، وتعريضها للخلافات الداخلية وما تفرزه من تباعد ومن استنكار شعبي لأسلوب التعطيل. وقد أوضحت تجارب الدعوة الإسلامية في ممرات السياسة المخاطر التي انفجرت من هذا النهج، ليس في ما يخص الإسلام والسياسة فقط، وإنما نقرأ عن انفجار الصدام المسلح بين المذاهب في القارة الأوروبية في القرن السادس عشر الذي استمر أكثر من ثلاثة عقود، وما زالت الحساسيات بين المذاهب تشتعل بصدمات تأذت منها شعوب ليس في أوروبا فقط، وإنما أيضاً في آسيا وفي العالم العربي. ونتذكر تجارب الإخوان في مصر مع العمل السياسي، واللجوء إلى العنف لتأكيد الحق في ممارسة السياسة بجلباب الدعوة الإسلامية وعنف حصادها وضحاياها من أمثال أحمد ماهر رئيس الوزراء في 1946، والنقراشي باشا في عام 1948، وآخرين لحقوا بهم من مختلف الإدارات الحكومية. وفي شمال أيرلندا، استمرت المواجهة بين الأيرلنديين بغطاء ديني - وطني توقف منذ سنوات وما زال الوضع هشاً وغير مطمئن. نعود إلى الشأن الكويتي، حيث ستجرى انتخابات خلال فترة قصيرة، ولا شك في أن البرلمانيين المنتمين للجمعية سيتواجدون في الساحة الانتخابية، على أمل أن تحملهم جسور التواصل التي شيدتها الجمعية إلى الفضاء البرلماني، والحق أن الجمعية لا تحتاج إلى من لا يحمل أنفاسها، فليست بحاجة إلى هذه الترتيبات، فمسارها آمن ورسالتها تظل مضيئة، لكن آثار الحيرة والاحراج من إفرازات المواقف التي يستهويها نواب الجمعية تبقى عبئاً ثقيلاً.
مشاركة :