حكومة تغير خططها كما يغيِّر وزراؤها ملابسهم. في أيام مجلس الأمة الماضي خرجت علينا وثيقة الإصلاح المالي والاقتصادي، وقُدمت للناس على أنها المن والسلوى في خلاصة خطط ومشاريع لا بد منها تنموياً ومالياً ولتغيير هوية الدولة اقتصادياً ولسد عجز الموازنة أيضاً. راح مجلس وأتى آخر. فإذا بالوثيقة تعاد صياغتها كلياً أو جزئياً لنستنتج أنها كانت لمجلس هين لين، ثم اختلفت الظروف. والآن نحن أمام مجلس آخر مختلف عادت فيه بعض المعارضة إلى الميدان، فقررت الحكومة تغيير الوثيقة بسبب خوفها وترددها وتفضيلها الترضيات السياسية الضيقة والآنية على حساب مصلحة الوطن العليا والمستقبلية. أي أن الأمر متعلق بأشخاص ومراميهم وليس متعلقاً بمصير البلد، كما كانت الحكومة تقول وتدعي سابقاً عندما وضعت الوثيقة الأولى. وبينت الاستنتاجات أيضاً أن الوزراء المعنيين بالتطبيق وجدوا أنفسهم عاجزين عن تحقيق الأهداف لا سيما أهداف المدى القصير. فتفتقت الأذهان عن مناورة مكشوفة للعب بورقة شراء الوقت بإعلان التحضير لوثيقة جديدة لعل البرلمان الحالي يتريث قليلاً في معارضته ويبقى الوزراء في مناصبهم فترة أطول. علماً أن الوثيقة السابقة كانت عبارة عن قص ولزق من خطط التنمية في جزء منها، وفي الجزء المالي الخاص بعجز الموازنة أتت قاصرة متقاعسة عن ابتداع أفكار جريئة لزيادة الإيراد، إذ لجأت إلى السهل في هذا المجال أي زيادة الرسوم مثل رفع سعر البنزين. ونسيت أن هناك أكثر من مليار دينار مهدد بالضياع لمجرد أن الوزارات والإدارات العامة لا تحصل ما للدولة من متأخرات تغنينا عن إرهاق كاهل المواطن لو حصلناها. وعن العجز نقول إن الدولة مليئة باحتياطيات مالية ونفطية هائلة قل نظيرها حول العالم. أما للمدى القصير فالعقل المحاسبي الضيق ينظر للعجز السنوي فقط بسبب هبوط النفط متناسياً أن الأولى بالحكومة الآن لجم الهدر ومكافحة الفساد ووقف التنفيعات وتوزيع المغانم، فمن دون ذلك لن يقتنع أي مواطن بجدية هذه الحكومة ولا بعدالة تعبئة الموارد المالية وتوزيع الأحمال الإصلاحية. ففي جانب المناقصات وأوامرها التغييرية مثلاً، تركت الحكومة الحبل على غاربه مفضلة عدم الخوض في هذا المجال علماً أن فيه هدراً وفساداً كبيرين بأرقام خيالية؟ وخير دليل مناقصة الأنابيب التي كان لنا شرف الخوض فيها وكشف ملابساتها منذ 2014. وما كانت لتلغى لولا الضغط بالحجة والوثائق منا ومن أطراف أخرى حتى وصلنا إلى الإلغاء بعد معاناة الأمرين. ونسأل: كم هناك من مناقصات مثل تلك المشؤومة؟ ربما الكثير. لو دققنا جيداً في هذا الجانب سنحقق وفراً يغنينا عن فرض رسوم على المواطنين وتجنيب الناس تجرع كأس مرة هم بغنى عنها في بلد غني كبلدنا. مثال آخر: عجزت الحكومة ومنذ سنوات طويلة عن تحريك المياه الراكدة في الصندوق الوطني للمشاريع الصغيرة والمتوسطة التي هي العماد الأول لخلق فرص عمل للشباب المبادرين الذين لا يعرفون الآن إلا طريق الوظيفة الحكومية. علماً أن العجز سيتفاقم مع الداخلين بالآلاف سنوياً إلى سوق العمل في القطاع العام. أما رؤية 2035 فما هي إلا إبرة تخدير للتغطية على فشل الحكومةفي الإصلاح. وعدم مقدرتها أو عدم رغبتها في البدء بنفسها، كما أعطى المثل سمو الأمير عندما أكد أن الديوان مستعد لإعطاء نموذج في الترشيد. واستمرارا في التخبط وشراء الوقت والتهرب من الاستحقاقات الداهمة، فقد أتحفتنا الحكومة ممثلة بعدد من وزرائها بتقديم رؤية 2035 في احتفالية غريبة. العنوان كان جاذبا، إلا أن المضمون أتى ضحلا. والمضحك أن بين من شارك في تلك المسرحية وزير أو أكثر انبرى لعرض ما لديه للسنة المالية 2018/2017 فقط، أي أتى متخلفا عن رؤية 35 نحو 17 سنة. ومع ذلك يجدر القول إن هذه الخطة ليست الأولى من نوعها ولن تكون الأخيرة بكل تأكيد. أما السبب فهو الارتجال الحكومي. فكلما رأت الحكومة نفسها محشورة في وضع ما أو قضية ما تخرج علينا بورق بعضه مكرر وبعضه الآخر أشبه بعشوائيات أفكار وخطط غير مترابطة. كلمة «رؤية» في هذا المجال تعني أولا أن كل الاستراتيجيات الموضوعة والآليات المعتمدة فضلا عن الخطوات التنفيذية المرتبطة بجدول زمني.. يفترض أن تصل بنا إلى هدف محدد يغير مفهوم أسس تحديث بناء الدولة بشكل جذري ويطور هويتها على نحو جوهري.. وهذا لم يفهمه الوزراء. فعن بناء الدولة نقول إن ما سمعناه من بعض السادة الوزراء ما هو إلا عرض لعدد من المشاريع، لا سيما في قطاعي النفط والبنية التحتية. هذه المشاريع جارية ويحتاجها البلد في كل الأحوال، بالنظر إلى نمو السكان والتغير الديموغرافي ولا منة لأحد فيها، إلا إذا كان جادا في تسريع تنفيذها، لكن السرعة والفعالية ليستا من شيم هؤلاء الوزراء المعروف عنهم وعمن سبقهم أن التأجيل ديدنهم. فبعض ما حدثونا عنه مخطط له ورقيا منذ سنوات أو عقود، والبعض الآخر عبارة عن أفكار عامة لا جدية في تنفيذها حتى الآن. أما عن الهوية فنقول إن تطويرها يقضي تحديد دور الدولة في الاقتصاد أولا. وهذا الدور لا نتخيله لأنفسنا ونحاور بعضنا به كأنه شأن محلي، بل يجب النظر من حولنا كيف تتطور دول باتجاه حجز مواقع لها على الخريطة الاقتصادية إقليميا وربما عالميا، كما تفعل الإمارات على سبيل المثال لا الحصر. لم يقل لنا وزراء رؤية 2035 شيئا من هذا القبيل، بل كرروا مقولات نسمعها منذ 50 سنة عن زيادة مشاركة القطاع الخاص في التنمية من دون تقديم أدلة حاسمة باتجاه هذا الخيار، إذ إن الخصخصة عبارة عن شعار بلا أي مضمون. ويخلط وزراء هذه الحكومة بين مفهومي التنمية والرؤية، علما أن الفرق شاسع، وعلما أن الأولى في خدمة الثانية، أي مشاريع ذات أهداف استراتيجية وليست مشاريع حسب الحاجة فقط. إن ما سمعناه وشاهدناه لا يمت للرؤية بصلة، بل هو ارتجال إضافي من مجموعة تعرف كيف تشتري الوقت، لكنها تجهل قيمة هذا الوقت في بناء الأوطان. أحمد القضيبي * نائب سابق
مشاركة :