هنالك من يطلق على الحرب التي تدور رحاها في الأراضي السورية مصطلح «حرب أهلية». فهل حقّاً هي كذلك؟ إنّ المجازر التي انكشفت على الملأ طوال السنوات الخمس المنصرمة وما أفرزته من بشاعات شاهدها القاصي والداني تُفرغ المصطلح من فحواه. لقد فرزت هذه الحرب الطاحنة سكّان هذا الكيان المصطنع إلى مكوّناتهم العرقية الطائفية والإثنية المتجذّرة في الذهنيّات منذ القدم. إنّها الذهنيات التي انبنت منها ذاكرتهم التاريخية طوال قرون طويلة من الصراعات فيما بينهم. عندما يدور الحديث عن حروب أهلية فإنّ الحروب تنشب على زعامة أو على أيديولوجية، بين من يعتبرون أنفسهم أهلاً. غير أنّ الحالة السورية، كحالات كثيرة في هذا المشرق، هي بخلاف ذلك. وهذا ما يعني، في نهاية المطاف، أنّ كلّ هؤلاء المتجازرين في ما بينهم لم يكونوا في يوم من الأيّام «أهلاً» لتكون حروبهم أهلية، إذ إنّ ولاءاتهم هي لمكوّنات أكثر اختلافاً منها ائتلافاً، ولذا أيضاً فإنّ استخدام مصطلح «حرب أهلية» في شأنهم هو خاطئ من الأساس. إنّ هذه الحرب الدائرة منذ سنوات والتي استنزفت مئات آلاف الضحايا وملايين المقتلعين من أوطانهم هي حرب قبلية طائفية ليس إلاّ. ومنذ أن دخل اللاعب الروسي على الساحة السورية بآلته العسكرية العظمى وعمليات القصف البساطية على مناطق كانت قد تحرّرت من قبضة الاستبداد البعثي القرداحي، بحجّة محاربة الإرهاب، بدأت تُنشر تقارير عن جرائم حرب يرتكبها هذا الدبّ الروسي في سورية. هذا ما أفادت به تقارير منظمة العفو الدولية غير مرّة في الشهور الأخيرة. لقد طاول القصف الروسي مؤخّراً مستشفيات تديرها منظمة أطبّاء بلا حدود بالإضافة إلى الكثير من الأحياء المدنية. كالعادة، وكما هو متوقّع، تنفي روسيا كلّ هذه الاتّهامات. هذه هي الحال مع الدول العظمى التي لا يحاسبها أحد. ففي الماضي غير البعيد كانت روسيا قد سوّت بالأرض غروزني وبلداً كاملاً كالشيشان من دون أن يتحرّك أحد. غير أنّ صلف النّظام القرداحي جاء هذه المرّة على لسان موفده في الأمم المتحدة. لقد دان هذا المبعوث البعثي منظّمة «أطبّاء بلا حدود» واصفاً ايّاها بأنها «فرع للاستخبارات الفرنسية» يعمل في سورية من دون ترخيص. ليس هذا فحسب، بل يُضيف بلغة بعثية بائدة صفة «المزعوم» للمستشفى المقصوف. إنّها اللغة ذاتها التي جلبت الوبال على هذه البقعة وعلى ساكنتها منذ عقود طويلة، وما بُدّلت تبديلاً. لكن ماذا لو؟ هذا هو السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان على خلفية هذه الجرائم التي ترتكبها القوات الروسية بحق المدنيين في هذا البلد. لو أنّ عمليّات القصف هذه جاءت من الجيش الأميركي أو البريطاني على سبيل المثال، لشاهدنا الصراخ والزعيق في تظاهرات تنطلق من العواصم العربية ضدّ التدخّل الأميركي والجرائم الغربية الاستعمارية. ناهيك عن تظاهرات تحرق فيها الأعلام الأميركية ورفع الشعارات عن «الشيطان الأكبر» و «الغرب الكافر» و «الهجمة الصليبية»، وما إلى ذلك من هذا الكلام الممجوج. أمّا الآن، ومع هذه الجرائم البارزة للعيان، هنالك صمت تام في كلّ هذه العواصم التي شهدت تظاهرات كهذه في الماضي. إنّها ظاهرة بارزة بحاجة إلى دراسة على أصعدة نفسية واجتماعية وثقافية. إنّها ظاهرة في حاجة إلى تفسير. الحقيقة أنّني أبحث عن ذلك التفسير، غير أنّي لم أعثر بعد على إجابة عن هذا السؤال. ثم إنه بعد مرور قرن على الخرائط التي رسمها الاستعمار إثر تفكيك السلطنة العثمانية، وما أعقب ذلك من إنشاء كيانات مصطنعة، قد يكون قد حان أوان خلط الأوراق مجدداً. فهل بدأت مشاريع رسم حدود جديدة في هذه المنطقة تأخذ بالحسبان مكوّناتها الدينية والإثنية؟ إذا كانت كيانات هذا المشرق لم تفلح في بناء دولة المواطنة العابرة للأديان، للطوائف والإثنيات، فما الذي يضمن لنا عودتها إلى سابق عهدها بعد كلّ هذه المجازر؟ إنّ هذه المأساة المشرقية التي تبرز المأساة السورية كأكبر شاهد عليها لا يمكن أن تتداركها الذاكرة بين ليلة وضحاها. ما من شكّ في أنّها ستبقى في نفسيّات البشر لعقود طويلة، إن لم نقل لقرون طويلة مقبلة. وما دامت هذه هي الحال، فإنّ ما كان لن يكون وحريّ بكلّ من لا يزال يملك ذرّة من بصيرة، وبكلّ من لا يزال يملك إحساساً إنسانياً أن يبدأ البحث عن حلول أخرى تضمن للبشر حقوقهم الطبيعية بعيداً من شعارات البلاغة العربية التي لم تجلب على أهلها سوى الدمار. هذه هي الأسئلة التي يجب أن تُطرح في كلّ لقاء بين المكوّنات البشرية لهذه البقعة التي لم تكن في يوم من الأيّام أهلاً. وما لم نطرح الأسئلة بصراحة، فلن نصل إلى سواء السبيل وسنبقى ندور في حلقات مفرغة، وقد ننعم بفسحات قصيرة بين شلالات الدماء التي لن تنتهي. * كاتب فلسطيني
مشاركة :