الشاعر العربي هو صياد مصادفات من الطراز الأول، فهو ينتقل من وصف سيفه إلى ثغر حبيبته، بخفة بهلوان، هكذا كان يراه الشاعر الراحل نزار قباني، فالشعر هندسة حروف وأصوات نعمر بها في نفوس الآخرين عالما يشابه عالمنا الداخلي، والشعراء مهندسون لكل واحد منهم طريقته في بناء الحروف وتعميرها، والحجر متوافر للجميع، ولكن القلة من الموهوبين هي التي تعرف أين تضعه وكيف تضعه. هذه الروح، هي التي حاول "ملتقى الشعر العربي حول العالم" غرسها في نفوس زوار معرض المدينة المنورة للكتاب في نسخته الثانية، والذي نظمه مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية بالشراكة مع هيئة الأدب والنشر والترجمة، امتدادا للاحتفاء بعام الشعر العربي 2023، وأعقبته جلسات تناولت الرحالة والمستشرقين وكتبهم، وما أسموه "بطولاتهم الوهمية". الشعر في الدول غير العربيةضمن ملتقى الشعر العربي في العالم، استضافت ندوة مشاركين من دول آسيوية وإفريقية للحديث عن حالة الشعر العربي في الدول غير العربية، وتحدث فيها عبدالناصر حنيفة، من سريلانكا عن بلده، وما تمثله اللغة العربية لديها من قدسية، مبينا أن الأشعار العربية حية وتدرس كجزء من مادة الأدب العربي، إضافة إلى وجود كليات مختصة بتعليم العروض والقافية، ومن مدرسيها من يجيد الشعر، وزاد في حديثه "عموم الشعر في سريلانكا منوع ما بين عمودي وحر، وفي الآونة الأخيرة تشهد انتشارا للشعر الغنائي". وبين يوسف محمد، من ساحل العاج، أن الشعر في دولته قليل جدا، ولا سيما وهي حديثة عهد به، بعد أن حظي أبناؤها بدراسة اللغة العربية، فالشعر العربي في عموم ساحل العاج يعد ضئيلا مقارنة بدول جوارها، إلا أن هناك جهودا ولو بدت فردية نحو تعلم الشعر وتمرسه. وأرجع الدكتور عبدالله سلمي، من الهند، الفضل في معرفتهم الشعر إلى اعتناقهم الإسلام، الذي حببهم في اللغة العربية، وأوجد في داخلهم بذرة الحرص على تعلمها، خاصة في مدينتي كيرلا، ويحسب له الفضل أن جعل أفرادا يتعمقون فيها، وصولا إلى الشعر، "فمنا من يقرضه ولو بنسبة قليلة بدت مع الوقت في الارتفاع". أما الشاعر النيجيري عيسى ألي أبو بكر، فنوه بجهود علماء نيجيريا القدامى الذين تعلموا، ومن ثم دعوا وشجعوا مجتمعاتهم على دخول المدارس وتعلم الدين وعلوم اللغة، موضحا "الشعر هو من فرض نفسه عليهم، وبدأوا بكتابته، وأصبح حاضرا في مدن عدة من نيجيريا، وحالته أستطيع أن أصنفها بالجيدة وفي طريقه إلى الأفضل". وصاحبت الملتقى أمسيات شعرية من شرق المعمورة وغربها، احتفاء بعام الشعر العربي 2023، استضاف من خلالها شعراء وشاعرات من المملكة وخارجها، وهم شاعرات المدينة المنورة: منى البدراني، وليلى الأحمدي، والفائزة بلقب أمير الشعراء العمانية عائشة السيفي، واللبنانية سارة الزين، والسنغالي أنجوغو أنينغ، والمالي بكري سيسي، والنيجيري ناصر علي الخواص، ومن النيجر آمدو علي إبراهيم، ومحمد الأمين جوب ومحمد نيانغ من السنغال، والسوداني محمد عبدالباري، إضافة إلى الشاعر حسن الزهراني الفائز أخيرا بجائزة الشارقة للشعر. المستشرقون وتحقيق المخطوطاتحضور لافت شهدته الجلسة التي أدارها المحقق والمؤرخ العراقي بشار عايد معروف، ووصف تحقيق المخطوطات بالأمر الخطير كونه يعنى بهوية الأمة، ونفى في أثناء ورشة عمل نظمها معرض المدينة المنورة للكتاب أن يكون للمستشرقين دور في تحقيق المخطوطات، فهو إجراء درجت عليه الحضارة الإسلامية، وكانت هناك عناية حيال ضبط الكتب وتحقيقها تخضع لقواعد زمن التحقيق التزم بها المحققون وعملوا بها. وبين "معروف" أن هناك ملامح لا بد أن تكون بادية على المحقق، وتعد مقياسا على جودة عمله، ذاكرا أهمها "البحث عن الكتاب المراد تحقيقه من حيث أهميته والتأكد من المصادر، ولا سيما نحن في زمن تبدو فيه عملية العثور سهلة ميسرة، بعكس العصور السابقة وصعوبة العثور على جميع النسخ المتوافرة ودراستها علميا"، مشددا على ضرورة أن يتحلى المحقق ولو بطرف من العلم المراد التحقيق في مخطوطته، فلا يجوز لأي إنسان أن يحقق في كتاب في غير تخصصه، وأن يكون من الذين يعلمون خبايا العلم المقصود تحقيقه، فالتخصص ضرورة". وأوضح أن من الخطوات السليمة للتحقيق هي جمع الكتاب، وأن يختار المحقق أجود النسخ، واستبعاد النسخ التي نقلت من أخرى، ومستطردا، "غير مستبعد أن يكون المؤلف غير رأيه فنشر إصدارا آخر، مما يستوجب الجمع ما بينها"، وتابع حديثه، "إذا وجدت نسخة من خط المؤلف يكتفي المحقق بها، فمن الخطأ إضافة نسخ أخرى إليها"، واستثنى من ذلك وجود نسخة أخرى، فيعتمد مع نسخة المؤلف الأولى، قائلا "فما كتبه هو الصواب حتى إن كان خطأ، آخذين في العلم أن هناك نوعين من النقل حرفي ونوعي". تحذير من البطولات الوهمية ندوة "المدينة المنورة في عيون الرحالة الأوروبيين" كانت إحدى الجلسات الحوارية التي حظيت باهتمام كبير من جمهور المعرض، وتحدث الباحث والأكاديمي التونسي الدكتور عبدالرزاق الحمامي، عن الرحالة السويسري بركهارت، الذي تعلم اللغة العربية، وتدرب على المشي مسافات طويلة، والعيش في العراء، حيث زار أماكن في إفريقيا، ونزل حلب، وحل ضيفا عند قبيلة عنزة، وتعرف لغتهم ومارس تقاليدهم، حفظ القرآن الكريم وتفقه في الدين، وقدم أشمل تقرير عن الحجاز، بعد أن انتحل صفة مسلم وأدى الحج دون أن يثير شكوكا ونجح في مهمته، بعد أن دون كتابه "رحلة إلى شبه الجزيرة العربية". وأضاف، "قضى بركهارت في المدينة المنورة ثلاثة أشهر، منها شهران مريضا، ولم يشاهدها إلا شهرا واحدا، ووصف المدينة وأماكن الزيارة، حكومتها، مناخها، وأمراضها، وحياة الناس، نقل صورا مشوشة عن البدع، واعتمد على مطالعاته التاريخية في وصف المسجد النبوي، رسم خريطة للمدينة المنورة، ووضع مفتاحا للأماكن والأحياء والأبواب، والتضاريس والأودية، مركزا على القلعة ووصف ما في داخلها رغم منعه من زيارتها"، مشيرا إلى أن أبنية المدينة متقنة من الحجر لا تتجاوز طابقين، أما الصروح والأبنية الضخمة فقليلة، ملاحظا النقص في الأبنية العامة، ولافتا إلى وفرة المياه في قباء والتزود بها مجانا على عكس سكان مكة المكرمة الذين كانوا يدفعون مقابلا لذلك، كما أنه وصف المسجد النبوي بالجوهرة الثمينة، فعلق على العمارة والبناء والأنشطة الدينية، وبعض وصفه انفعالي انطباعي، مثل زيارة المسجد من قبل النساء ليلا، ووصفه علماء المدينة بالأفقه من علماء مكة، مؤكدا أنه يحيد عن الموضوعية في بعض كتاباته ولديه مواقف استعلائية تحتاج إلى بحث وتقصٍ. من جهتها، استعرضت عضو هيئة التدريس في قسم الاستشراق في جامعة طيبة الدكتورة سماح باحويرث، رحلة الضابط الإنجليزي برتن الذي تقمص شخصية أفغاني مسلم، حيث وصف المدينة المنورة من خلال مشاهداته لها على بعد ميلين بأنها تبدو كبيرة رحبة، ثم وصف معالمها، سورها غير منتظم، أربعة أبواب، التكية المصرية، سبيل الماء، قصر الحكم، حصن مرتفع، المسجد النبوي، مآذنه الأربع والقبة الخضراء. وأضافت، "نزل الرحالة عند العم حامد السمان ضيفا فوصفه ووصف ملابسه، وتحدث عن ملابس النساء وحشمتهن واهتمامهن بالزينة والعطور، إضافة إلى الأطعمة، وانتشار المقاهي والسهر أمام المنازل، وصف بساتين قباء ومياهها وتمورها وأعنابها، مؤكدا على كرم العرب وعواطفهم الجياشة، كما تحدثت عن وظائف المدنيين، ومنها (المزور) الذي يتولى الضيافة والإرشاد لأماكن الزيارة". بدوره حذر الباحث والمختص في تاريخ المدينة المنورة الدكتور فؤاد المغامسي، من الانسياق وراء مبالغة المستشرقين في تقاريرهم التفصيلية والوصفية، لكونهم يتقاضون مقابلا ماليا لرحلاتهم التجسسية، متحدثا عن رحلة الأيرلندي سادلير، الذي كان يقيم في القطيف عام 1819 وانتقل إلى الحناكية، حيث قدم ليصف المنطقة جغرافيا، فوصف جبل أحد، حتى إنه عد الدور في أحد الأحياء، وذكر أن عددها 200 والسكان 60 نسمة فقط، أما مجموع دور المدينة فستة آلاف نصفها مدمرة على حد وصفه. واتجه إلى آبار علي، ووصف القلاع والأبواب والأربطة والمكتبات، ومجاري المياه، والاهتمام بالزراعة، كذلك استعرض رحلة الجاسوس الفرنسي ليون روش 1841، الذي قدم من ينبع إلى بدر، ومكث في المدينة ثلاثة أيام ومن غريب ما ذكر وصفه للمسجد النبوي، معتمدا على وصف بركهارت، ووصف الإضاءة والمصابيح، لكنه أضاف بطولات وهمية له، ومنها رؤيته للقبر الشريف من خلال إعطائه مبلغا ماليا لأحد حراس الحجرة.
مشاركة :