ربما كان الأبعث على الاستغراب، من وجهة نظر ابستمولوجية، في مشروع محمد عابد الجابري لنقد العقد العربي هو الاعتماد في هذا العقد على معيار «الضدية». الضدية أولًا مع العقل اليوناني. والضدية ثانيًا مع العقل الأوروبي الغربي. والضدية ثالثًا مع العقلين معًا باعتبارهما يؤلفان في نظر ناقد العقل العربي عقلًا واحدًا. ولنترك الكلام له. يقول بالحرف الواحد: عندما تتحدث عن العقل العربي، أو عن الثقافة العربية، فإننا نصدر، سواء صرحنا بذلك أو لم نصرح، عن موقف يسلم بوجود «عقل» و«ثقافة» أو «عقول» و«ثقافات» أخرى يتحدد بالمقارنة معها العقل والثقافة اللذان نتحدث عنهما. هذا شيء لا مفر منه إذ «بضدها تتميز الأشياء» كما كان يحلو لأجدادنا أن يقولوا ويكرروا القول. ودون الدخول في تفاصيل قد تجرنا بعيدًا... نرى من الضروري اختصار الطريق والكشف صراحة عن «الضد» أو «الأضداد» التي سنستعين بها، من خلال المقارنة معها، في تحديد هوية» العقل العربيط، علمًا بأن كلمة «ضد» هنا لا تعني التعارض والتنافر بل مجرد الاختلاف: إننا عندما نتحدث عن العقل العربي فنحن نميزه في نفس الوقت عن العقل اليوناني والعقل الأوروبي، الحديث. إن الضدية، المرفوعة على هذا النحو إلى مستوى المبدأ المنهجي الابستمولوجي تثير عددًا من الأسئلة: أليست الضدية على الدوام منهجًا إفقاريًا؟ فما أفقر مفهوم والعلم، أو الديمقراطية مثلاً، بالمضمون إذا جرى تحديد الأول بأنه نقيض الجهل، والثانية بأنها عكس الدكتاتورية؟ ثم أليست الضدية بالضرورة منهجًا مانويًا؟ منهجًا لا يضع «الخير» في قطب إلا ليضع «الشر» في قطب مقابل؟ ومن ثم أليست الضدية منهجًا معياريًا منهجًا يخفى على الدوام غائية تثمينة و/ أو تبخيسية؟ ولكن حتى إذا صرفنا النظر عن هذه الغائية المانوية التي لا تضع العقل العربي في موقع العقلين اليوناني والأوروبي إلا بهدف إنزاله في القطب السالب، مقابل حصر الإيجابية كلها بالقطب اليوناني - الأوروبي، فإننا سنلاحظ أن: الجابري يقوم جوهريًا على مصادرة ابستمولوجية تفترض تطابقًا ووحدة هوية بين العقلين اليوناني القديم والأوروبي الحديث، فما هذان العقلان هما «الضدد» الذي به يتحدد «ضده» فحسب، بل هما أيضًا «الضد» الذي بتحديده ضده يحدد ذاته أيضًا. وبما أن كل ثالث هو بالضرورة المنطقية ـ بحسب الدرس الأرسطي بالذات - مرفوع، فإن ضد الضد هو بالضرورة المنطقية أيضًا متطابق في الهوية. والواقع أن الجابري نفسه بعد عرض تحليلي أو اعادة بناء مستعجلة بالأخرى لـ «تاريخية» كل من العقلين اليوناني القديم والأوروبي، ودومًا بالمضادة مع العقل العربي الوسيط، لا يلبث أن يماهي بين العقلين في وحدة ابستمولوجية تامة، تارة باسم العقل اليوناني - الأوروبي أو (الإغريقي - الأوروبي)، وطورًا باسم «الفكر الغربي». والحال أنه عند هذا المستوى بالتحديد تعيد المركزية الاثنية الأوروبية إنتاج نفسها بقلم الجابري الذي يتبنى على هذا النحو وبدون أي محاكمة تاريخية أو نقدية أسطورتها الأولى والأخطر على الإطلاق، الأسطورة القائلة باستمرارية غربية، تاريخية وجغرافية بين «العقلين اليوناني القديم والأوروبي الحديث. والحال أنه إذا كانت هذه الأسطورة تقوم، في شقها الأول، على استبعاد «الشرق» كله، القديم والوسيط، الأدنى والأقصى معًا، خارج دائرة العقل، فإنها في شقها الثاني، تقوم على حصر لحضارة هذا العقل داخل جناح جغرافي جديد يعمد هذه المرة باسم «الغرب». ولسنا نملك الأهلية العلمية الكافية للحكم في ما إذا كان مصطلحًا «الشرق» و«الغرب»: من المصطلحات المتداولة في ثقافات الشرق الأقصى الصينية - الهندية، ولكن ما نعلمه علم اليقين بالمقابل هو أن الفضاء الجغرافي الذي تعاملت معه الثقافة اليونانية أو المكتوبة باليونانية كان من طبيعة «قارية» بالأحرى «أوروبا وآسيا» بالإضافة طبعًا إلى أفريقيا كانت تسمى أيضًا لوبياء. وما نعلمه علم اليقين كذلك أن مصطلحي الغرب والمشرق، كمفهومين سياسيين ظهرًا لأول مرة في التاريخ مع انقسام الإمبراطورية الرومانية على نفسها عام 395م، وظلا متداولين على امتداد الألف سنة التي دامتها القرون الوسطى لتسمية «إمبراطورية الغرب» بعاصمتها روما وكنيستها الكاثوليكية الناطقة باللاتينية، و«إمبراطورية الشرق» بعاصمتها بيزنطة وكنيستها الأورثوذكسية الناطقة باليونانية، وما نعلمه علم اليقين أخيرًا أن مفهوم الغرب بالمعنى الحضاري للكلمة ولد مع ولادة الحداثة الغربية، وأنه كان من صنع الغرب نفسه، وأن هذا الغرب هو الذي استنبت لنفسه بعدًا يونانيًا من خلال عملية استملاك ومصادرة معًا للتراث اليوناني بنقله من خانة الشرق إلى خانة الغرب. أما الاستملاك فهو بحد ذاته عمل مشروع وهو دليل على حيوية الحضارة الغربية وعلى فاعليتها التاريخية ونزوعها الكوني إلى الامتداد والتوسع كما على صبؤها الطبيعي إلى التأصل في جذور، وبالمقابل فإن المصادرة كانت ولا تزال عملًا غير مشروع وموضع نقد حتي من قبل بعض الباحثين الغربيين الحريصين على الحقيقة التاريخية وعلى رفع يد المركزية الاثنية الأوروبية الشعورية واللاشعورية معًا، عن كتابة التاريخ. ونعني بالمصادرة عملية بتر التراث اليوناني عن جذوره المتوسطية، وتحديدًا الحوض الشرقي من البحر الأبيض المتوسط بعدواته الأوروبية والأسيوية والأفريقية معًا، وترحيله، في ما يشبه عملية إنزال بحري، أو حتى جوي، إلى أوروبا الغربية مسقط رأس الحداثة، وامتداداتها الأطلسية. وبكلمة واحدة: تغريب اليونان. والواقع أنه كان لا بد من قطيعتين كبريين في تاريخ التطور الحضاري للبشرية كيما تتم - بالنجاح الذي تمت به - عملية المصادرة الغربية للتراث اليوناني. القطيعة الأولى تمثلت بولادة الحداثة الغربية نفسها من خلال ما يمكن اعتباره ظاهرة انزياح حقيقي في جغرافية الحضارات كرست قيام «الغرب» كبؤرة جديدة وبديلة لسائر حضارات العالم القديم والوسيط. والقطيعة الثانية تمثلت في تبديل الطبيعة الديموغرافية لآسيا الصغرى نتيجة للفتح التركي العثماني، مما أفسح المجال أمام عملية «تغريب» التراث اليوناني بعد أن كان قدره الأول والطبيعي هو التشريق على أمام عملية التعريب القرار في المجالي أمام عملية وتغريب: التراث اليوناني بعد أن كان. وهل من صدف التاريخ أصلًا أن تكون القطيعتان متلازمتين زمنيًا؟ فسقوط القسطنطينة هو - مع اكتشاف أمريكا - المؤشر الكرونولوجي الذي يؤرخ به لمولد الحداثة في الغرب. والجابري، عندما يضيع العقل العربي في موقع الضدية الماهوية مع العقلين اليوناني والأوروبي الحديث، وعندما يوحد بين هذين العقلين تحت اسم العقل الغربي، وبالمضادة الابستمولوجية مع العقل العربي، فإنما يكرس على نحو غير مسبوق إليه في الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة عملية المصادرة اللامشروعة والتغريب القسري للتراث اليوناني الذي يبدو وكأن الصراع على ملكيته يشكل بندًا رئيسيًا في مشروع الحداثة الغربية لبناء هويتها على أساس من العمق الحضاري. 1979* * كاتب وناقد ومترجم سوري «1939 - 2016»
مشاركة :