يقول المفكر الفرنسي اوليفيه مونجانفي كتابه «الإسلام والعولمة والإرهاب» إنّ الارهاب بأشكاله المتعدّدة يعود في جزء منه الى العولمة، وسطوتها على المجتمعات المحليّة. وكان محمد أركون، ذكر في محاضرة «الإسلام في مواجهة تحديات أوروبا الحداثة»: «أنّ العنف ليس محصوراً فقط بالمتطرفين الأصوليين بل أيضاً في الغرب وحلفائه، وعنف العولمة الغربية هو الأقوى نظراً الى القوة الجبروتية للغرب». الجبروت الروسي بقيادة فلاديمير بوتين، سفاح غروزني، وقاتل معارضيه السياسيين، آخرهم كان بوريس نيمتسوف برصاص غادر حين كان يتمشى بالقرب من الكرملين (شباط/ فبراير 2015) وقبله الكسندر ليتفينكو عام 2006 بعد وضع السمّ له في فنجان الشاي في أحد فنادق لندن، لن ينتج منه إلاّ المزيد من التطرف السنّي أين منه تطرف عصابة «داعش»!! العدوان الوحشي الروسي والذي يحرق الأخضر واليابس ويُلاحق المدنيين العُزّل سيولّد حتماً، ومع الأسف الشديد، تطرفاً لن ينجو منه الغرب نفسه. قد ينجح العدوان الروسي الوحشي في ارغام المعارضة السورية المسلحة على الاستسلام، وبالتالي سيطرته على الأرض، لكنّه حتماً لن ينجح في فرض الاستقرار على سورية. فأولى نتائج العدوان الروسي المرتقبة: أفغنة سورية في وقتٍ لاحق، إضافة الى تكريس الفرقة المذهبية المؤلمة والموجعة... بين السنّة والشيعة، والتي بدأتها طهران ولا تزال تُمارسها. صحيح أنّ هنالك تطرّفاً سنيّاً، وهذا بطبيعة الحال أمرٌ مرفوض في شكلٍ قاطع ويتناقض مع جوهر الدين، لكنّه لم ينشأ ويترعرع بدعمٍ مُنظّم ورسميّ من دولةٍ أو دول كما هي الحال مع طهران. نحن أمام مشهد اقليمي تتجلى معالمه: أولاً، توسعيّة روسية عسكرية غير مسبوقة تتناقض مع أبسط القوانين الدولية تعمل على التطهير المذهبي في سورية بمساعدة إيرانية. فلقد تغيّر السيناريو من إيجاد سورية مُفيدة (دمشق، حمص، اللاذقية) للسعي الى السيطرة على الأراضي السورية كافة، بهدف تثبيت حكم الأسد وتكريس الوجود الإيراني في سورية كما هي الحال في العراق. ثانياً، كومنترن، شيعي هذه المرّة – لا شيوعي على غرار الكومنترن الذي كان يرعاه الإتحاد السوفياتي - مركزه طهران، لا يؤمن بسياسة حُسن الجوار وعدم التدخل بشؤون الآخرين، بل عمل ويعمل منذ سنوات بتوجبه من ملالي طهران، ليس فقط على زعزعة العالم العربي، بجعل العرب الشيعة حزباً تابعاً لطهران (آخر مثال: تمنّع تسعة من النواب الكويتيين الشيعة عن حضور جلسات مجلس الأمة رداً على أحكام قضائية بحق مواطنين شيعة ثبتت إدانتهم وتورطهم بأعمال تخريب وتفجير...) بل أيضاً استقطاب المواطنين الشيعة اينما وجدوا في أفريقيا وآسيا. ولعلّ «جلب» أو استحضار أفغان شيعة لقتال المعارضة السورية (السنيّة) خير مثال. ثالثاً، تكريس واقع جغرافي مذهبي في بغداد، وإلا كيف نُفسّر، مؤخراً، مضي الحكومة العراقية وما يُسمّى بالحشد الشعبي (الشيعي) في تشييد سور يعمل على تقطيع وضم أجزاء من العاصمة العراقية لضمان وجود مذهبي من لون واحد. يتقاطع مع معالم المشهد الإقليمي، تخاذل المجتمع الدولي، لا بل تواطؤه بالتباطؤ في حسم الأزمة السورية، فمن قول أوباما (أثر انطلاق الثورة السورية) أنّ الأسد فقد شرعيته وعليه الرحيل، الى قول وزير الخارجية الأميركي جون كيري، وفق تسريبات نقلها موقع «ميدل إيست اي» (الأحد 7 شباط 2016) عن مصدرٍ مُطّلع بأنّ كيري مرّر رسالة الى الأسد في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي خُلاصتها انّ الولايات المتحدة لا تريد إزاحته من السلطة. العالم كان ولا يزال متصلاً ببعضه البعض. لذلك، لا يُمكن الولايات المتحدة ولا أوروبا النأي بالنفس عن تداعيات الأزمات في الشرق الأوسط بما فيها الأزمة السورية. عارض أوباما تنفيذ الاقتراح التركي بفرض منطقة آمنة Safe Haven في الشمال السوري، لأنّه في حال حصل ذلك، سيزعزع من ثبات الأسد، لكنّ لو تمّ تنفيذ المنطقة الآمنة لما هرع مئات آلاف اللاجئيين الى ابواب أوروبا، ولما تحملّت القارة العجوز الأعباء الباهظة لإيوائهم!! وفي السياق نفسه، لو ضغط الأميركيون على الأسد بما يكفي للتنحي وتسليم السلطة لمن يستحقها، خصوصاً بعدما هدّد اوباما انّه سيشُل الماكينة العسكرية السورية في حال استعمل النظام السوري الأسلحة الكيماوية – ولقد فعل - لكنّه، مع الأسف، لم يترجم أفعاله الى أقوال، وذلك حرصاً على اتفاقه مع النظام في طهران، وكان بالإمكان اختصار المآسي في سورية وايقاف نزيف البشر وهدم الحجر. لكنّ الذي حصل عكس ذلك، استمرّ الأسد في السلطة واستمرّ باعتماد أساليب القسوة والبطش ظنّاً منه انّ بن علي في تونس ومبارك في مصر والقذافي في ليبيا لم يكونوا قساةٍ بما يكفي كي يستمروا في الحكم. هاجسي الأساسي ليس فقط مصير سورية القاتم، بل حجم الحقد الذي سيعتمل في النفوس مولّداً نزعةً ضاربة للإنتقام، ومُسببّاً مزيداً من التطرّف الذي لن ينجو أحد منه. فلكلّ فعل رد فعل. فـ «القاعدة»، وخصوصاً الزرقاوي وجماعته، لم ينشط في العراق إلاّ بعد الهجوم الأميركي وحلّ الجيش العراقي إضافة الى تسليم شؤون البلاد والعباد الى طهران! والثابت انّ من يُدير الماكينة العسكرية لـ «داعش» هم ضباط سابقون من السنّة سبق ان خدموا في الجيش العراقي. ينطبق الأمر على «داعش» الذي أضحى اللاعب – بدلاً من اللعبة – والتعبير لمحمد علي فرحات (راجع «الحياة» الخميس 4/2/2016). إنّ سياسة النأي بالنفس التي تتبعها الإدارة الأميركية والتغاضي عن الإقدام على خطوات شُجاعة مُبتكرة لوأد النزاعات في مهدها، أدّت وتؤدي الى مزيدٍ من المآسي. فلو مارست أميركا ما يكفي من ضغوط على إسرائيل إثر حرب 1973 (وما قبل ذلك) حفاظاً على مصالحها قبل مصالح العرب، للإنسحاب من الأراضي العربية المحتلة وإحلال السلام في المنطقة، لما شهدنا تداعيات أدّت الى طروحات بن لادن والتي ترجمها من خلال إعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) 2001! ناهيك عن عمليات خطف الطائرات المدنيّة قبل ذلك في الستينات وأوائل السبعينات، إضافةً الى أحداثٍ مؤلمة وأزماتٍ متعدّدة لا ضرورة للإشارة إليها منعاً للإطالة. ويقيني أنّ الإجراء الوحيد الإيجابي الذي اتخذته أميركا في ما يتعلّق بالمنطقة، كان في قرار الرئيس الأميركي السابق دوايت أيزنهاور الضغط على فرنسا وبريطانيا وإسرائيل لوقف العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، والذي لولاه لما توقف العدوان. المُشكلة تكمُن في القراءة الأميركية الخاطئة للأوضاع في العالم العربي إبتداءً من عدم الضغط بما يكفي على إسرائيل (على رّغم اقتناع العرب بالسلام مع إسرائيل بعد تخليهم عن رميها في البحر وفق القيادي الفلسطيني السابق أحمد الشُقيري) مروراً بالتغاضي عن الأنظمة السلطوية، وإنتهاءً بالغزو الاميركي على العراق بحُجَجٍ واهية. آخر قراءة خاطئة، على سبيل المثال لا الحصر، حين فاجأنا الرئيس الأميركي في «خطاب الإتحاد» الأخير بقوله إنّ الصراع في المنطقة يعود الى ألف عامٍ مضى. وهو بذلك لمّح الى الصراع المذهبي بين الشيعة والسنّة، الذي شاع لفترةٍ قصيرة في بدايات العهد الإسلامي منذ أكثر من ألف عام، لكنّه خمد لعقود، والذي أشعله مؤخراً مُخطط طهران للسيطرة على المنطقة والتودّد الأميركي الى نظام الملالي في طهران. بئس الزمن الذي نحن فيه. زمن الشيعة والسنّة! في كتاب «التشيّع السياسي والتشيّع الديني»، (دار الإنتشار العربي 2009) يثبت المفكر العراقي أحمد الكاتب، المتحدّر من البصرة في العراق، في شكلٍ قاطع أنّ لا وجود لنظرية ولاية الفقيه الذي يرفع لواءها النظام الحالي في طهران. ويدعو المؤلّف الى التحـــرر من نظرية «الإمام الآلهية». يسأل أحمد الكاتب: «هل يجب ان يُحافظ السنّة والشيعة على هويــاتهـــم الطائفية الى يوم القيامة؟ وأساساً هل ولد الشيعة في التاريخ ليكونوا طائفة في مقابل السُنّة؟ أو طائفة مُنغلقة تستهدف السُنّة؟ أّم كانوا حزباً سياسياً طبيعياً يعمل من أجل تحرير الأمّة الإسلامية وتحقيق العدالة والخير لها؟». أصبحنا في تحت التحت، والتعبير للصحافي الراحل رشدي المعلوف، تُرى في أي قعرٍ نحن؟ عُذراً سيّد أوباما، لا يُمكن أن تُعيد الصراع الى ألف عام! * كاتب لبناني
مشاركة :