في أعقاب الحرب العالمية الثانية، انضمت الولايات المتحدة إلى العديد من الدول الغربية وبنت نظام بريتون وودز، وهو ما وضع الأساس للنظام النقدي الدولي الحالي والتفوق العالمي للدولار الأمريكي. وبعد مرور ما يقرب من ثمانين عاما، لا يزال الدولار الأمريكي الأخضر العملة المهيمنة على مستوى العالم. غير أن الولايات المتحدة تعمل، ربما عن غير قصد، على التعجيل بعملية فك الارتباط بالدولار بسبب أسلوب التأجيل الذي تتبعه في التعامل مع أزمة الديون الدورية المدمرة، فضلا عن رغبتها الجامحة في استخدام هيمنتها الدولارية كسلاح مقابل الهيمنة العالمية. ولكي يظل العالم على ثقته بالدولار الأمريكي، فلا بد أن تكون العملة نفسها ذات مصداقية وأن يكون ذاك البلد جديرا بالثقة. بيد أن النخب السياسية الأمريكية من الحزبين تلحق الضرر بكلتا الصفتين. فلعقود من الزمان، كان تفوق الدولار سببا في تشجيع الولايات المتحدة على ربط العالم بأوراقها النقدية، وهو ما كان بدوره سببا في زيادة ديون هذه القوة العظمى. وفي مواجهة الأرقام الآخذة في الارتفاع، أصبحت البلدان في مختلف أنحاء العالم تشعر بقلق متزايد إزاء قدرة أمريكا على تسديد فواتيرها على المدى الطويل. وفي هذا السياق، قال مايكل سترين، مدير دراسات السياسة الاقتصادية في معهد أمريكان إنتربرايز، إنه على الرغم من أن الأزمة الحالية ربما تم تجنبها مؤقتا، إلا أنها ستعود بالتأكيد إلى الظهور في المستقبل، وذلك بسبب الساسة الأمريكيين الجامحين، والإنفاق الحكومي غير الخاضع للرقابة، وغياب الإصلاحات الهيكلية. ولكن هل سيتم تجاوز سقف الدين مع اقتراب الموعد النهائي التالي؟ إن هذا السؤال الذي تبلغ قيمته تريليون دولار يخطر على بال العديد من الناس في جميع أنحاء العالم في الوقت الذي يسارع فيه الساسة الأمريكيون إلى إعلان النصر على خصومهم. إن المخاوف بشأن تجاوز سقف الدين الأمريكي ليس مبالغ فيها بأي حال من الأحوال. فمن كان يظن أن الكونغرس الأمريكي سيتعرض للاقتحام في العصر الحديث؟ ووفقا لتوقعات مكتب الميزانية في الكونغرس الأمريكي، فإن الدين الفيدرالي الذي يحتفظ به الجمهور سينمو كحصة من الناتج الاقتصادي السنوي من 98 في المائة في عام 2023 إلى 118 في المائة في عام 2033 و195 في المائة في عام 2053. ومع ارتفاع الدين الوطني إلى مستويات جديدة، يزداد أيضا ميل الساسة إلى اتباع سياسة حافة الهاوية، لأنه كلما ارتفعت تكاليف التخلف عن السداد، زاد احتمال تنازل الخصوم. إن الحقيقة المتمثلة في أن واشنطن رفعت سقف ديونها أكثر من مائة مرة في عصر ما بعد الحرب ليس بالأمر المطمئن بالنسبة لبقية العالم. وفي الواقع إنها أنباء سيئة للغاية بالنسبة للاقتصاد العالمي الذي ما زال يكافح من أجل التعافي، وذلك لأنها تخلق قدرا هائلا من عدم اليقين في السوق العالمية. وكان مقال رأي نشرته ((بلومبرغ)) مؤخرا قد ذكر أن "تأثير أمريكا على الاقتصاد العالمي يتآكل الآن بفعل الجراح السياساتية التي ألحقتها هي بنفسها، في ظل مواجهة خطيرة بشأن سقف الديون تدفع إلى إعادة النظر في مكانة الدولار البارزة في التجارة والتمويل العالميين". إن التراجع المطرد لدور الدولار الأمريكي كعملة احتياطية دولية أمر لا مفر منه وواضح. فقد أظهرت البيانات الصادرة عن صندوق النقد الدولي أنه على الرغم من أن الدولار لا يزال مهيمنا حتى الآن، إلا أن حصته في احتياطيات النقد الأجنبي العالمية انخفضت من أكثر من 70 في المائة في عام 1999 إلى 58.36 في المائة بحلول نهاية عام 2022. وفي الوقت الذي يتراجع فيه الدور القيادي للدولار تدريجيا، فإن استخدام واشنطن عملتها كسلاح يغذي عملية فك الارتباط بالدولار. وإذا كانت العقوبات الغربية التي قادتها الولايات المتحدة ضد موسكو، وخاصة طرد روسيا من نظام سويفت، أثناء الأزمة الأوكرانية في عام 2022، تحمل أي درس للدول الأخرى، فهو أن الأدوات الاقتصادية الضخمة الموجودة في أيدي أمريكا تشكل تهديدا قد يرغم الآخرين على اتباع خط الولايات المتحدة أو المجازفة بقطع علاقاتها بالسوق المالية العالمية والنظام المصرفي القائم على الدولار ويسير على هوى واشنطن. وقد أثار هذا الاحتمال مخاوف متزايدة بين العديد من الدول غير الغربية من أن تصبح يوما ما فريسة سهلة لدولار أمريكي يُستخدم كسلاح. فلا عجب أن هذا الشعور يدفعهم بعيدا عن العملة الأمريكية، كما أن المزيد من الدول تدعو الى زيادة استخدام العملات الأخرى. فمن جانبه، تعهد الرئيس البرازيلي لويز إيناسيو لولا دا سيلفا العام الماضي خلال حملته الانتخابية قائلا "سننشئ عملة في أمريكا اللاتينية لأننا لا نستطيع الاستمرار في الاعتماد على الدولار". وليس من قبيل الصدفة أن تعمل دول جنوب شرق آسيا أيضا على فك الارتباط بالدولار في تجارتها وتعزيز أنظمة الدفع المحلية. وفي اجتماع وزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية لرابطة دول جنوب شرق آسيا ((الآسيان)) في مارس، ناقش واضعو السياسات فكرة خفض اعتمادهم على الدولار والين الياباني واليورو و"الانتقال إلى تسوية المعاملات بالعملات المحلية" بدلا من ذلك. وفي الشرق الأوسط، أشارت التقارير إلى أن المملكة العربية السعودية، وهي مصدر رئيسي للنفط، أبدت انفتاحها على التجارة بعملات أخرى غير الدولار. وتشهد هذه الحالات على وجهة نظر إيلون ماسك، الرئيس التنفيذي لشركتي ((تسلا)) و((سبيس إكس))، التي قال فيها "إذا قمت باستخدام العملة كسلاح عدة مرات بما فيه الكفاية، فإن دولا أخرى سوف تتوقف عن استخدامها". لا شك في أن الدولار الأمريكي لن يتلاشى في أي وقت قريب. ولكن الساسة الأمريكيين، بتسببهم في خلل لا مبرر له في الاستقرار المالي العالمي وتهديدهم المستمر بسحب احتياطيات العملات الموجودة لدى البنوك المركزية الأجنبية، يعملون على تآكل مكانة الولايات المتحدة وعملتها. اصغوا إلى هذا الصوت! فالتصدعات الحاصلة في هيمنة الدولار آخذة الآن في الظهور.■
مشاركة :