لا مجال للمقارنة بين الأسد وسوريا. فالرئيس السوري كائن زائل وقبل ذلك هو موظف رسمي مؤقت وإن ظل البعض يردد "إلى الأبد". كان ذلك في حياة الأسد الأب. اما في حياة الأسد الابن فقد ازدادت النغمة قسوة حين أضُيفت عبارة "أو نحرق البلد". البلد للأسف قد احترق وبقي الاسد عنوانا لهزيمة شعب. وبغض النظر عن موقفنا مما جرى فإن هناك شعب قوامه عشرة ملايين إنسان أو أكثر هو اليوم خارج سوريا. نحن نتحدث عن ثلث سكان البلد. مما يعني أن ثلث سوريا يقيم خارجها. تلك سابقة لم تحدث في العصر الحديث. حتى في الحروب الكبرى التي شهدتها أوروبا عبر القرون الماضية لم يتعرض شعب لما تعرض له الشعب السوري. صارت الجغرافيا تلهث وراء التاريخ وصار التاريخ يجري مذعورا وهو يتلفت. ترى ما الذي سيقوله للأجيال السورية القادمة؟ ولكن أية أجيال نقصد وأين تقيم؟ أجيال ولدت وستولد في المنافي والمهاجر وخيام النزوح، لا تعرف من سوريتها سوى الألم والعذاب والتشرد والجوع والإذلال أم أجيال تم توطينها واستقرت وصار الوطن بالنسبة لها عبارة عن صحون ووصفات أطعمة هي فخر المطبخ النباتي السوري؟ ليس في الإمكان فتح قوس ليتم الحديث عن فقرة يمكن نسيانها. ذلك لأن سوريا لن تستعيد سوريا التي عاش فيها السوريون الذين لن يكون في إمكان أحد أن يقنعهم أن غدا سيكون أفضل من امس وأن الزمن الذي ضاع يمكن تعويضه وأن ما سيحل محل نظام الأسد سيذهب حتما بحكم الطبيعة لا بحكم السياسة سيكون أفضل منه وأن دولة سوريا ستعمر ما دمرته الحرب التي صارت أشبه بالمرض المزمن. لقد أخطا السوريون، نظاما ومعارضة حين اعتمدوا معادلة "كل شيء أو لا شيء" هدفا لخصومتهم أو صراعهم ولم يكونوا سياسيين بالرغم من أن تاريخهم النظري يؤكد أنهم كانوا الأكثر دراية بعالم السياسة. ذلك ما يؤكد نظرية "العطار لا يصلح ما أفسده الدهر". كانت البيئة السياسية فاسدة لذلك فقد جرى تفخيخها بيسر وسرعة قياسية بحيث بدا الطرفان وكأنها كانا قد استعدا للدخول في حرب طويلة الأمد، ولم يكن ذلك على المستوى الواقعي حقيقيا. عشر سنوات من الحرب المباشرة، لم تبق جهة من جهات العالم لم تساهم بها علنا أو خفية، دفعت سوريا ثمنها، أما النظام السياسي الذي كان إسقاطه هو الهدف لا يزال موجودا. نقول "إنه موجود على الأقل". أما الحديث عن انتصار فتلك بلاهة يمكن أن تعطي فكرة سيئة عن المعجبين بالنظام السوري هي في الحقيقة فكرة عن الشعوب التي صار الزمن يمر بها ولا يمسها. يتركها في مكانها مثل أصحاب الكهف الذين لم يستيقظوا بعد. وما خطاب بشار الأسد في قمة جدة إلا دليل على أن انتظار يقظة الوعي سيكون طويلا. كان حريا به أن يقول شيئا عن تلك البلاد التي دمرته لا عن دولته التي هُمشت. لمرة واحدة تمنى الآخرون أن يعرض الأسد تفاصيل مرارة التجربة التي عاشها ولا يزال وسيظل يعيشها الشعب السوري في شتاته وعلى أرض وطنه على حد سواء. ما يعرفه الأسد عما جرى لبلاده لا يعرفه الآخرون بالتأكيد، غير أنه لم يكن يفكر إلا في استعراض انتصاره الذي يعرف الآخرون أنه مجرد فذلكة بلاغية. فما من انتصار للأسد في ظل هزيمة سوريا. وسوريا قد هُزمت للأسف. ليس جديدا القول إن الأسد قد أكد انفصاله عن الواقع منذ خطابه الأول الذي علق فيه على احداث درعا (آذار/مارس 2011) ولكن من الصادم أن يستمر الرئيس الذي يعرف أن رأسه هو ثمن الحرب المعلن في انفصاله. تلك واحدة من أعظم لعنات الوضع السوري الذي صار واضحا أنه وصل منذ سنوات إلى مرحلة الهلاك. لقد هلكت سوريا ولا يزال الأسد يعتقد أنه لم يهلك. شيء أشبه بالمومياء المصرية. كل ما قاله الأسد عن مؤامرة كونية، في جزء عظيم منه صحيح ولكن الصحيح أيضا أن طريقة تفكير الأسد في سوريا وشعبها هي التي مهدت لقيام تلك المؤامرة. وبالرغم مما جرى فإن الأسد لم يتراجع، بل صار يتحدث بين حين وآخر عن انتصار وهمي لم تكبحه أخبار الغارقين في البحر من السوريين والضائعين على الجزر والمطاردين في بيروت والمدن التركية والمقيمين مؤقتا في دول اللجوء والأنكى من ذلك صور المدن العظيمة التي صارت خرابا. سوريا لم تعد سوريا والأسد لا يزال كما هو.
مشاركة :