تستهل السورية شهلا العجيلي (الرقة 1976) روايتها سماء قريبة من بيتنا بالعودة إلى مدينة حلب في منتصف القرن العشرين، لتنقل صوراً من تاريخ المدينة الثري، وكيف كان الانتعاش الاقتصادي والسياسي ينعكس على مختلف وجوه الحياة، خاصة الموسيقى والفنون والآداب. تتحرك الرواية، التي اختيرت ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية 2016، تحت وطأة اللحظة السورية الراهنة، والتي هي لحظة الدماء السائلة هنا وهناك على أراضيها، وما الصور المنعكسة على تلك السماء التي تصفها بأنها قريبة إلا صدى للدماء المهدورة، وانعكاس لمشاهد من التشرد واللجوء والنزوح والدمار. تختار العجيلي للفصل الأول من روايتها عنوان ليالي الأنس، في إشارة إلى الماضي الجميل، وإثارة للهمم في سبيل استرداد الأنس المفقود في حياة المدينة وأهلها، ولعنة تحولها إلى ميدان حرب، واقتتال مستمر، وإفراغها من أهلها، بحيث يتغير وجهها وتصبح كأنها مدينة أخرى منزوعة من تاريخها وجذورها ومرمية في مستنقع الحرب والدمار. تقتحم العجيلي عدة عوالم في روايتها (منشورات ضفاف والاختلاف 2015)، تنتقل من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، تنقل تداعيات أحداث تاريخية مفصلية على أناس كانوا مشاركين فيها أو على هوامشها، كانتقالها من تصوير بعض الأجواء في أميركا في الستينيات من القرن العشرين، ولقطات من خطب مارتن لوثر كينج الشهيرة، وحديثه عن الحلم الأميركي والعالمي، وتأثر أحد أبطال روايتها سهيل بدران بذلك ومحاولة التماهي مع الحلم على طريقته السورية. أحلام وكوابيس كذلك تنتقل إلى تصوير جوانب من الحرب الفيتنامية، وذلك من خلال الإشارة إلى شخصيات فلسطينية شاركت الفيتناميين حربهم ضد الأميركيين، والتغييرات التي دخلت حياتها بعد ذلك، كالاقتران بإحداهن وإنجاب ابنة (هانية)، متعددة الهويات، تكون رمزاً لمناهضة المحتلين أينما كانوا، فضلاً عن معاندة المرض وتحديه. الراوية جمان بدران، دكتورة جامعية تنتظر في المطار، تتناهبها الذكريات بين الأمس واليوم، تعبر عن حنينها للزمن الذي كان يعكس حراكاً اجتماعياً وسياسياً كبيراً في سوريا، وأحلام الناس الكبرى بعد الاستقلال، ثم التحجيم الذي طال تلك الأحلام رويداً رويداً وصولاً إلى اليوم الذي يضج بالأسئلة المؤلمة عن انكسار الأحلام وتحطمها. تكون جمان بمثابة المسبار الذي تتكئ عليه العجيلي لترتحل معها في فضاءات مكانية وزمانية مختلفة، تغوص معها في الماضي وتفاصيله، والواقع ومشاكله، والمدن ومعالمها، والبشر وأسرارهم وألغازهم، وتكون بهيئتها ودرجتها الأكاديمية مثال المرأة الواعية المثقفة، تلك التي تحاول بأقصى ما لديها لتحقيق ما تصبو إليه في ظل ظروف عصيبة قاهرة. تكون مدينة الرقة ملتقى الأحلام والكوابيس معاً لدى الراوية، فهي تستذكر أيامها الجميلة فيها، وتستعيد طفولتها وبراءتها وسعادتها في ربوعها، وحين تتابع تطوراتها وأخبارها التي تتناقلها وكالات الأخبار العالمية، تصدم بها، وكأنها تكتشف مدينة أخرى سوداء غير مدينتها البهية الوادعة المسالمة، تكون مدينة مرعبة منذورة للخراب بهيئتها الطارئة. ألم وأمل كما ترصد الروائية عالم المخيمات السورية في دول الجوار، خاصة مخيم الزعتري في الأردن، والمآسي التي يعيشها الناس هناك، والصراعات التي تدور فيه، والخيبات التي يعيشها اللاجئون، ومصيبة تحول المخيم إلى مأساة متعاظمة، كأنه ساحة حرب بديلة، بأدوات وآليات مختلفة. تلقي صاحبة سجاد عجمي الأضواء على الخلافات التي تسود جراء توصيف الأحداث، وتحويل الثورة في سوريا إلى حرب، وتنامي الجماعات المتطرفة وانتشارها وسيطرتها على مناطق شاسعة في البلد، وتحكمها في مصير الناس، وتسببها في جرائم لا حصر لها، بحيث وجد الناس أنفسهم بين براثن قوى متحاربة ترفع الدين قناعاً وستاراً، بالموازاة مع مزاعم النظام البائسة التي لا يفتأ يجترها. تصور الروائية مداهمة السرطان جسد بطلتها جمان التي تعاني كثيراً جراء ذلك، وتتعرض للمعالجات الكيميائية، وتمر بمراحل خطيرة وصعبة، تكاد تفقد الأمل فيها، لكنها تستعيد بعض الأمل، وتسعى للخروج من قوقعة اليأس والمرض، وتغوص في عوالم المصابين بالسرطان، تنقل هواجسهم ومخاوفهم، قوتهم وضعفهم، انكسارهم واستعادتهم الأمل، ومشقة كل مرحلة من المراحل. تحضر إحالة غير مباشرة لدى الروائية بين جسد جمان وجسد بلدها سوريا، ويكون السرطان رمزاً للمرض الذي يفتك بجسديهما وروحيهما، ويترك آثاره المدمرة عليهما، ويكون في تغليب الأمل على الألم في النهاية جزء من التفاؤل المشوب بالأسى بالمستقبل، برغم سوداوية الواقع، وكأن اللحظة الراهنة السوداء تتخلل زمنين جميلين: الماضي الذي كان مرتكزاً لانبثاق الحركة التحررية للبلد، والمستقبل المأمول بعودة البلد إلى سلامته بعيداً عن لعنة الحرب، وهنا تكون الإشارة إلى قرب السماء لتسهيل الارتقاء بأكثر من معنى.
مشاركة :