هل يفسح الاتفاق السعودي - الإيراني الطريق إلى "وستفاليا" شرق أوسطية

  • 6/15/2023
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

استيقظ العالم في العاشر من مارس على خبر مصافحة رئيسي مجلس الأمن الوطني في السعودية مساعد العيبان ونظيره الإيراني علي شمخاني في العاصمة الصينية بكين. كان تأثير هذا الخبر كفيلٌ بجعله يتصدر المشهد الإعلامي الدولي إلى يومنا هذا لعدة اعتبارات، لعل أبرزها التطور المذهل في الانتقال لمرحلة تطبيع العلاقات الدبلوماسية التي قُطعت في بداية عام 2016 دون ظهور مؤشرات واضحة من البلدين لاستئنافها عدا محادثات بينية في عواصم عُمان والعراق، ثم كان الأمر الآخر المفاجئ وهو إدارة الصين لهذا الاتفاق والفوز بامتياز الوساطة والضمانة في تحدي واضح للولايات المتحدة التي دأبت على إدارة وإتمام الصفقات الدولية المعقدة بشكل مباشر أو عبر حلفائها. بالرغم من ذلك، قد يكون البعد الأهم لهذا الاتفاق أنه يأتي في ظل ظهور إرهاصات ولادة نظام عالمي جديد بدأت معالمه تتشكل مع بداية الالفية وبلغ ذروته مع الغزو الروسي لأوكرانيا في تحد واضح لمبدأ سيادة الدول "الوستفالي"، إذ يعد انتهاك هذا المبدأ – بالمناسبة- سبباً من الأسباب الرئيسية للصراع الإقليمي بين السعودية وإيران. في لحظات انشغال الغرب يبدو عقد اتفاق بكين مذكراً بالتفاهمات التي انهت الصراع الديني الأوروبي- الاوروبي في القرن السادس عشر. يجادل هذا المقال في إمكانية اعتبار اتفاق بكين شبيه بسلام "وستفاليا" الذي كان أحد أهدافه الأساسية جلب السلام للعالم المسيحي. حرب الأربعين عاماً قد يكون الصراع السني – الشيعي شبيه بالصراع الكاثوليكي – البروتستانتي على الأقل من جهة ما آلت إليه الخلافات الطائفية آنذاك، إذ أدت تلك نزاعات إلى حرب الثلاثين عاماً بين الطائفتين المسيحيتين، ونراه اليوم يتمثل في الشرق الأوسط على هيئة صراع مسلح وتجنيد "مليشياوي" عابر للحدود برعت في تكويناته الجمهورية الايرانية، يضاف له صراع قومي عربي – فارسي هو أقدم من الخلاف بين السنة والشيعة. وعلى الرغم من أن هذا الصراع – تاريخياً - يدخل في مراحل مد وجزر منذ أربعة عشر قرناً إلى أن الصراع دخل مرحلة جديدة منذ سقوط الشاه محمد رضا بهلوي كإمبراطور لإيران عام 1979 وصعود الخميني - رجل الدين – الذي قاد الثورة من منفاه في فرنسا. إذ أدت هذه الثورة إلى إدخال الشرق الأوسط منذ أربعين عاماً إلى حقبة من الصراعات والانتهاكات السيادية. ألهب هذا الصراع حالة من التوتر الطائفي الذي كان مسوغاً لظهور الجماعات والأفكار المتطرفة والمسلحة في مناطق إسلامية متفرقة وأصبحت الحساسية الطائفية في أعلى مستوياتها مع توافر جاهزية عسكرية للمليشيات المدعومة من إيران التي وضعت امكانياتها في خدمة أهداف وغيبيات دينية تتناقض وطبيعة الدولة وسيادتها بمفهومها الوستفالي، هذا المجهود في الاستثمار في العناصر الثورية ودعم واستدعاء الجماعات الدينية ذات الانتماء الشيعي بالمجمل انعكس بشكل حاد على رفاه الإيرانيين، إذ دفع جيل كامل منهم فاتورة إسقاط الشاه والمجيء برجل الدين الخميني ليقود دولة ذات تراث حضاري مدني بمفهوم ثيوقراطي ضيق، أدى في نهاية الأمر إلى اندلاع جولات من الصراعات والمصادمات والمظاهرات الحاشدة في الداخل الإيراني، كان آخرها أكثرها حدة بعد مقتل "مهسا أميني" الفتاة الإيرانية التي قضت نحباها بسبب حجابها. تُذكَر تلك المظاهرات المُشاهد أو المتابع بإرهاصات ثورة الخميني عام 1979. لذا ارتبك القادة في إيران، وباتوا يشعرون أن الفوضى صارت على الأبواب، وبات يقيناً لديهم أن صيانة المليشيات الممتدة فيما يطلق عليه مجازاً الهلال الشيعي صارت مكلفة، وأن المضي في مشاريع من هذا النوع سيحيل إيران إلى أن تصبح نسخة أخرى من الدول التي اجتاحتها المليشيات الطائفية، مع توافر خصوبة لنشؤ تلك الاضطرابات فالفقر والتنوع القومي والديني هو أحد سمات الديموغرافيا الإيرانية التي لم يُحسن استخدامها. مخاض الانتقال من الثورة الى الدولة كان التهامس في الشارع الإيراني عن التحولات في الجارة الغربية المملكة العربية السعودية مسموعاً، إذ دشنت الأخيرة مشروعاً وطنياً تنموياً ضخماً، أفضى إلى إطلاق قدرات الدولة والشعب الذي يبلغ معدل أعمار أكثر من50% منهم الثلاثين سنة وأقل، إذ ساهمت رؤية (2030) إلى عملية تحول مجتمعي سريع وملفت على عدة مستويات وهو تحول لم تشهده المنطقة من قبل. بدا ذلك للمواطن الإيراني أن بلاده تقبع في ثورة عمرها أربعون عاماً دون أن تتقدم خطوة إلى الأمام، في حين تمضي دول الخليج بشعوبها وعلى رأسها السعودية التي توصف باعتبارها القوة الإقليمية المنافسة بكل ثقة إلى المستقبل. هذا العامل وعوامل أخرى مزمنة تعانيها إيران على رأسها الصراع المرير مع المجتمع الدولي حول ملفات عدة أكثرها حضوراً برنامجها النووي، تلك العوامل دفعت طهران إلى الدخول في منعطف تاريخي حاد مع تصاعد الاحتجاجات والتململ في أوساط الإيرانيين وتدهور صحة مرشد الجمهورية الإسلامية وبزوغ نجم البهلوية مرة أخرى متمثلةً في رضا بهلوي نجل شاه إيران الذي أطاحت به الثورة الخمينية عام 1979. وعلى الرغم أن اتفاق بكين قد لا يكون محل إجماع بين بعض ساسة طهران، ولكنه يعبر بشكل واضح عن يقين قد تشكل في ذهن القيادات العليا بضرورة تدارك مأزق الداخل الإيراني، والذي قد تفضي مآلاته إلى انهيار لدولة 1979 وعودة البهلوية. وقد بدا الباحث والأستاذ في جامعة كولومبيا أندرو سكوت كوبر منبهراً وهو ينقل انطباعاته من مدينة قم حيث الحوزات الدينية الشيعية، إذ ينقل اعجاب الطلبة بإيران ما قبل الثورة وبالعائلة البهلوية. ولو تأملنا في اتفاق بكين لوجدنا إيران للمرة الأولى تمتنع عن تصدير أزمتها الداخلية باختلاق ازمة خارجية، وفي هذا دلالة على الوصول لطريق مسدود مع خصوم الخارج، وأن أي جبهة ستفتح ستفضي إلى انهيارات كبيرة في الداخل. والسؤال الأهم ما مدى القناعة التي وصل لها ممسكي القرار الإيراني بضرورة طوي صفحة الثورة بكل أبجدياتها ومفاهيمها وعلى رأسها تصدير الثورة. إذ أن الإجابة على هذا السؤال، قد تتطلب اجتراح حلول عميقة في جسد النظام وأيديولوجيته الذي يبدو أنه يرغب في النجاة لإبعاد شبح انهيار الجمهورية الإسلامية التي تبدو منهكة على واقع اقتصادي واجتماعي محتقن وخارجي يدفع النظام لاتخاذ خطوات جريئة لخفض تهديداته طواعية. هذا المخاض قد يتطلب تضحيات لن تقتصر على تسويات محلية، أو إقليمية، بل أشمل وأوسع تتضمن الدخول في تفاهمات على مواضيع دقيقة كانت طهران ترى أن عامل الوقت دائماً في صالحها وعلى رأسها الملف النووي ومستقبل المليشيات والجماعات العابرة للحدود. التحديات المتوقعة يبدو الحفاظ على ميزان قوى معتدل هو غاية الموقِعين على اتفاقية بكين، على الرغم من أن الخلل في هذا الميزان قد يأتي من جهة طهران على الارجح وتحديدا من برنامجها النووي الذي قطعت فيه شوطاً كبيراً ليصبح برنامجاً عسكرياً وهو ما قد ينسف اتفاق بكين، الذي كان أحد أهم بنوده إعادة تفعيل الاتفاقية الأمنية بين البلدين. ولعل مآلات تحول إيران إلى قوة نووية سيتعدى تأثيرها الإقليمي، ولكنه ليس بالضرورة ذو تأثير إيجابي على الداخل الإيراني، بل إن عواقبه ستعمق أزمة النظام الداخلية لإحراز تقدم على حساب الشعب الذي يدفع فاتورة باهظة لإبقاء هذا البرنامج، كما أنه سيجعل النظام في موقع استهداف صريح من قبل القوى الدولية، وسخط حتى من تلك التي يحظى فيها بشيء من التفضيل وتحديداً من قبل الصين وروسيا التي لا تريد فتح جبهات مع الغرب في مناطق استراتيجية لاسيما بكين التي يهمها الحفاظ على أمن الطاقة. إن من شأن اختلال موازين القوى أن يؤذن بواقع جديد للصراع بين السعودية وإيران، لا سيما أنه سيجعل الرياض تصل إلى قناعة نهائية باستحالة الوصول إلى تفاهمات عادلة والتعاون مع طهران التي وبسبب مبادئها الثورية والممارسة الطائفية التي تصبغ تصرفات وسلوكيات النظام، سوف تجعلها مقتنعة بأن مفهوم السيادة لا يبدو حاضراً في ابجديات طهران، وقد يعيد انتاج حالة من الصراعات ذات طبيعة مختلفة بين الجانبين، ولكن الضريبة الأكبر ستدفعها إيران لا محالة، ولكن العكس تماماً قد يحدث، إذ أن الرياض قد أبدت اهتماماً واضحاً على التعاون في مجالات عدة مع طهران وهو ما قد ينعكس ايجاباً على النظام. هذا الاتفاق قد يؤدي في واقع الأمر إلى ازدهار إيران، ولكنه مشروط بالتزامها بالمعايير الدولية المبنية على احترام سيادة الدول. إن محورية اتفاق بكين واهميته لن تلغي التنافس الإقليمي أو التحديات، ولكنه قد يبدو فرصة تاريخية للبلدين لإبعاد المنطقة وخفض خطر التصعيد العسكري، فالتفاهم في هذه اللحظة مع الاخذ بعين الاعتبار الاحداث الحاصلة في مسار الصراع الدولي او صعود قوى اقتصادية جديدة، قد يغير من وجه المنطقة ويفضي إلى استفادة الجميع، والجدير ذكره هنا أن سلام "وستفاليا" نفسه لم يمنع من اندلاع حرب عالمية أولى وثانية راح ضحيتها ملايين البشر، ولكن تلك الحروب جاءت نتيجة لعدم احترام هذا السلام وبالتالي إلى تلك النتيجة المأساوية.

مشاركة :