إن قياس رسوخ واستمرار أي نظام إقليمي مرتبط أشدّ الارتباط بمعايير معاهدة وستفاليا، وهي المعايير التي أسست للنظام العالمي الذي تعرفه الدول منذ حوالي أربعة قرون، وقد عرفت تلك المعايير نفسها خروقاً عدة من قبل الدول الكبرى، لكنها ظلّت على الدوام معايير مُحددة لفكرة النظام، وقد شكّلت تلك المعايير إحدى المرجعيات الكبرى، وربما الأولى، في نشوء الأمم المتحدة في 24 أكتوبر/ تشرين الأول 1945. وليس مصادفة أن تاريخ تأسيس الأمم المتحدة هو ذاته تاريخ التوقيع النهائي لمعاهدة وستفاليا في عام 1648. لقد حدّدت معاهدة وستفاليا العلاقة بين الدول الموقعة عليها على أساس احترام مبدأ السيادة، وهو المبدأ الأساسي في النظام الدولي، وقد تمّ توقيع الاتفاقية بين دول أوروبا الوسطى المتحاربة بعد قتال فيما بينها دام ثلاثين عاماً، وقضى على حوالي ربع عدد سكان تلك الدول، وأسست المعاهدة لمفاهيم جديدة في العلاقات الدولية، تأخذ بالحسبان مصالح الدول، وحقها المشروع في تحقيق تلك المصالح، من دون أن تتجاوز الدول مصالح الدول الأخرى، أو تهدد استقرارها. لكن النظام العالمي الذي وضعت قواعده وستفاليا لم يكن في أي وقت من الأوقات نظاماً كلياً، فقد بقيت الكثير من الدول تسعى إلى اختراقه، وعدم التقيّد به، وعدم الاعتراف بشرعيته، ويشكّل النصف الأول من القرن العشرين مثالاً على سعي بعض الدول إلى تجاوز مبدأ سيادة الدول، وتهديد الاستقرار في بلدان أخرى. لكن نتائج الحربين العالميتين صبّت مجدداً في مصلحة العودة إلى معايير وستفاليا، من أجل إرساء قواعد الأمن والاستقرار في أوروبا والعالم. في الشرق الأوسط، الذي راحت معالمه الأولى تتشكّل بعد انهيار الدولة العثمانية مع نهاية الحرب العالمية الأولى، نشأت العديد من الدول بفعل تقاسم النفوذ بين الدولتين العظميين آنذاك، فرنسا وبريطانيا، ولاحقاً أدى خروج قوات الانتدابين الفرنسي والبريطاني إلى نشوء ما عرف بالدولة الوطنية، لكن من دون أن تترسخ مبادئ وستفاليا، وبقيت بعض دول المنطقة ساعية إلى تجاوز حدودها الوطنية نحو دول أخرى، وخلخلة الاستقرار فيها، وقد استخدمت الأنظمة السياسية شعارات إيديولوجية متعددة لتبرير سلوكها تجاه جيرانها. فعلياً كان الاستقرار في الشرق الأوسط خلال القرن الماضي استقراراً هشّاً، وافتقدت العلاقات بين دوله إلى عامل الثقة، وكانت الحاجة إلى التحالف مع الدول العظمى ضرورية بالنسبة لمعظم الدول، من أجل إحداث توازن القوة بينها وبين الدول الأخرى، وأثناء الحرب الباردة لعب الاتحاد السوفييتي وأمريكا دور ضابط الإيقاع للاستقرار في الشرق الأوسط، ومع نهاية الحرب الباردة عادت أحلام بعض دول المنطقة إلى توسيع مساحة نفوذها، بشكل مباشر أو غير مباشر، وقد كانت تكلفة الطموحات لدى بعض النظم السياسية عالية، ليس فقط على بلدانها ومجتمعاتها، بل أيضاً على عموم الشرق الأوسط. ومنذ الاحتلال الأمريكي للعراق، ومن ثم ما سمي «الربيع العربي»، ظهرت طموحات واضحة لدى بعض الدول لمدّ النفوذ خارج حدودها، وفي مقدمتها إيران وتركيا، مستفيدة من الخلل في النظام الإقليمي، والفشل الذي راحت تتجه إليه دول هذا «الربيع»، والتضارب بين المصالح الدولية، وقد عمدت إيران وتركيا إلى استنفار الإيديولوجيا الدينية، وتغذية ميليشيات طائفية، من دون الاكتراث بما يمكن أن يجرّه هذا السلوك من أزمات على منظومة الأمن والاستقرار في المنطقة، وعواقبه طويلة الأمد حتى بالنسبة لهما. إن أسباب المواجهة بين دول المنطقة في ازدياد، ولا يبدو أن الأفق القريب يحمل أية متغيرات جوهرية، بل على العكس من ذلك فإن مستويات المواجهة أصبحت متعددة، وليس هناك من طرف قادر على الحسم النهائي في ساحات المواجهة، وليس من قبيل المبالغة القول إن المنطقة ستشهد فصولاً جديدة من الصراع، قد لا تكون أقل حدّة مما سبق، خصوصاً أن آليات ضبط الصراع تبدو غائبة، وهو ما قد يفسح في المجال أمام مواجهات مباشرة بين الدول مستقبلاً، وهو السيناريو الأسوأ من بين كل سيناريوهات الصراع. الحاجة تبدو ماسّة اليوم إلى وستفاليا شرق أوسطية، ترسّخ مبادئ احترام المصالح والاستقرار واحترام السيادة، وتضع أسس استقرارٍ مستدام في المنطقة، وتتيح لشعوب المنطقة بناء مشتركات فيما بينها، انطلاقاً من الثقافة والمصالح والعمق الإنساني، لكن الواقع يبدو متناقضاً تماماً مع أي إمكانية راهنة للتفاهم على وستفاليا شرق أوسطية، خصوصاً أن بعض دول المنطقة تجد في استقرار الشرق الأوسط مقدمة لنشوء مشكلات داخلية، حيث إنها اعتمدت على المواجهة مع الدول الأخرى، بوصفها سياسة ثابتة لاستمرار نظامها السياسي.حسام ميروhusammiro@gmail.com
مشاركة :