تشهد إيران هذه الأيام الانتخابات البرلمانية، وكذلك انتخابات أعضاء مجلس خبراء القيادة. تأتي هذه الانتخابات في مرحلة حرجة للنظام الإيراني على المستويين: الداخلي والخارجي معا. فعلى المستوى الداخلي، هناك مطالبات حقيقية بتغير في أسلوب إدارة البلاد، وخاصة في الجانبين: التشريعي والقضائي، وكذلك حساسية موضوع اختيار المرشد الأعلى الذي سيخلف الخامنئي. هناك أيضا شخصيات تسعى إلى حلحلة ولاية الفقيه المطلقة الحالية، بأمل إطالة عمر النظام الذي ربما يكون بالفعل قد قضى عمره الافتراضي عند الأخذ في الحسبان تاريخ التقلبات السياسية في إيران خلال العصر الحديث. أما على المستوى الخارجي، فيشهد النظام حالتين متضادتين تماما، فعلى الرغم من النجاح النسبي في محاولات كسر العزلة السياسية الدولية التي كانت تعيشها إيران، بسبب برنامجها النووي المثير للجدل، وخاصة بعد الاتفاق النووي ووعود الرئيس روحاني للمجتمع الإيراني بالانخراط في المجتمع الدولي، واجهت إيران عزلة جديدة في محيطها الإقليمي، بسبب تدخلاتها المتكررة في الشؤون الداخلية لهذه الدول، وبسبب انتهاكها المواثيق الدولية بالاعتداء على مقرات البعثة الدبلوماسية السعودية في طهران ومشهد والعبث بمحتوياتها، الأمر الذي أدى إلى قيام بعض الدول العربية بقطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران، أو تخفيض التمثيل الدبلوماسي، وكذلك إدانات إسلامية ودولية لهذا الانتهاك الصارخ للمعاهدات والمواثيق الدولية. ما يحدث في إيران من انتخابات، لا يمكن وصفها سوى بـ"الديموقراطية العرجاء". إن حالة الترشح في إيران لأي انتخابات تشهد عملية فرز دقيقة للغاية، عبر مجلس أسسه الخميني خصيصا لهذه المهمة، ألا وهو مجلس صيانة الدستور، أو ما يعرف بالفارسية بـ"شوراي نگهبان"، إذ يقوم هذا المجلس بتأييد أو استبعاد المترشحين للانتخابات، بحيث لا يتجاوز عملية الفرز هذه من يتبنى توجها فكريا أو سياسيا لا يتطابق مع توجهات المرشد الأعلى شكلا أو مضمونا. لذلك، شهدنا في الأيام القليلة الماضية حالة من الشد والجذب في الداخل الإيراني، بسبب استبعاد شخصيات لا تتوافق وتوجهات الخامنئي، أو محسوبة على تيار يوصف بـ"الإصلاحي"، على الرغم من أن هذا التيار منبثق من رحم نظام ولاية الفقيه والثورة الإيرانية!، إلا أن النظام الإيراني يحاول تسويق فكرة التنافس في الانتخابات، وخلق صورة بأن هناك تعددية في المؤسسة ذات الطابع الثوري، والتي تسيطر على مفاصل القرار في البلاد. ولعلنا نتساءل سويا عن أسباب غياب أو بالأصح تغييب التوجهات الفكرية في إيران البعيدة نسبيا عن ولاية الفقيه ونظامها، فأين التيارات الليبرالية والعلمانية، وأين الشخصيات ذات التوجهات اليسارية؟! أين شريحة الشباب من قوائم الترشح في الانتخابات المختلفة؟ أتمنى ألا تخرج علينا أصوات تقول إن هذه التيارات غير مقبولة في المجتمع الإيراني، وبالتالي فضّل المنتمون إليها عدم المشاركة في العملية "الديموقراطية". يدرك كل من يعرف المجتمع الإيراني جيدا، أن هذه التوجهات تمثل الشريحة الأبرز في المجتمع، على الرغم من الصبغة المتدينة التي يحاول النظام إلباسها له قسرا، ولكن كثيرين يدركون جيدا أنه لا حظ لهم في المناصب والوظائف الحكومية المرموقة، إذا لم يتظاهروا بعكس ما يؤمنون به حقا. لذا، يعترف الإيرانيون بأن للمواطن وجهان متناقضان: أحدهما في الأماكن العامة، والآخر خلف الأبواب وفي الجلسات البعيدة عن عين الرقيب. أيضا، من شرائح المجتمع المغيبة عن العمليات الانتخابية في البلاد، الشعوب غير الفارسية، وخاصة العرب والبلوش والأكراد. إن التهميش الذي تواجهه هذه الشعوب مدفوع بعاملين رئيسين هما: العرق والمذهب، إلا القلة القليلة التي لا تكاد تذكر من أبناء الشعوب غير الفارسية الذين يقاتلون من أجل إثبات ولائهم للنظام الحاكم، بهدف الوصول إلى مناصب متوسطة. خلال عمر نظام ولاية الفقيه الذي يقارب 40 عاما، لم يصل سنيّ واحد إلى منصب وزير، مع العلم أن نسبة السنّة في إيران بين 20-30 % من مجموع السكان. أيضا لم يتم تعيين سفير واحد من أتباع المذهب السنّي إلا قبل أشهر، بعد أن وقع روحاني في مأزق عند زيارته كردستان، إذ سأله أحد الصحفيين عن سبب استبعاد أتباع المذهب السنّي من المناصب الكبيرة كالسفراء والوزراء، فرد روحاني: إن هناك سفيرا من السنّة، الأمر الذي أثار سخرية كثيرين في إيران. هذا الأمر قاده إلى حفظ ماء وجهه، بتعيين سفير سنّي لإيران في فيتنام! إن من أهم الشروط الأساسية للوصول إلى مناصب قيادية عليا في إيران، هو الإيمان بأساس ولاية الفقيه المطلقة، اعتقادا وممارسة، وهذا الشرط مطبق أيضا في كثير من الوظائف الأكاديمية والإدارية، ومن الشروط الأساسية للحصول على المنح الدراسية. في الختام، يرى كثيرون أن العملية الانتخابية في إيران ما هي إلا مسرحية كبيرة، تغازل خلالها إيران العالم الخارجي، والدول الغربية على وجه الخصوص، ولكن من يتجاوز القشرة الرقيقة التي يروج لها النظام عبر وسائله الإعلامية، يدرك جيدا هذه الحقيقة، كما أن أعداد المترشحين الذين يستبعدهم مجلس صيانة الدستور مبكرا، ويحرمهم من خوض السباق الانتخابي، يعكس مدى سيطرة النظام على كل شيء، وبالتالي لا يتجاوز "فلتر" هذا المجلس إلا المرضيّ عنهم من الولي الفقيه، فأي ديموقراطية هذه؟!
مشاركة :