يكتب الشاعر الإماراتي عبدالله الهدية الشحي قصيدة الشطرين، وهذا النمط من الشعر يعتمد الوزن والقافية، ويمتاز بإيقاعه المنتظم الذي يعد واحداً من جماليات التلقي العربي، والمشكلة المعاصرة في هذا النمط من الشعر تكمن في فرض الوزن أحياناً سطوته على اللغة، الأمر الذي يجعل الشعر أحياناً أسيراً لانتظام الإيقاع، ولكن هذه الإشكالية ليست مطلقة لأن قدرة الشاعر في قصيدة الشطرين يمكن تمييزها في إمكاناته على الالتزام بالوزن والارتقاء بلغة النص إلى الشعر، وقبل أن نقرر قدرة الشحي على موازنة هذه المعادلة الصعبة نحلل قصيدة أضاعوني، وهي قصيدة طويلة من بحر الكامل (متفاعلن، متفاعلن متفاعلن )، وتكاد تناجي، قصيدة عبدالله العرجي (أضاعوني وأي فتى أضاعوا) في المضمون وليس في الإيقاع، لأن قصيدة العرجي من بحر الوافر (مفاعلتن مفاعلتن فعولن)، وبين البحرين اختلاف في التفعيلة ولكنهما متفقان في الدائرة العروضية وهي (المؤتلف). إذا ما بدأنا من العنوان (أضاعوني) نجد أنه يشير إلى ظلم أصاب الذات، والضياع هنا لم يكن بسبب الأنا (النفس) بل بسبب الآخر، ولكن هل يعني الضياع في قصيدة الشحي التخلي عن الثوابت التي تعطي للوجود هويته؟ للجواب عن هذا السؤال نبدأ من البيت الأول في القصيدة الذي يقول (جلفار جئتك يا ملاذي ساعيا/ أدعو وقد لبى الحجيج ورائيا)، وجلفار هو الاسم القديم لرأس الخيمة، من هذا الاسم ينطلق الشاعر في رؤية العالم المعاصر (أي من التاريخ إلى الحاضر) إذ يقدم النص حركة الحجيج في البيت الأول على أنها عملية استعادة لماضٍ مشرق، لهذا جاءت جلفار التاريخ في مقدمة القصيدة بوصفها أهم أولويات الوجود ومعناه، ومعبرة عن التشكل الأساسي والحاضنة الأولى التي تستحق الحجيج، والقصد في قصيدة الشحي واضح في هذا المضمون، لكن الوضوح يختزن من الرموز التاريخية العربية في أزمنة البطولة والتفوق طاقات كبيرة تعطي لحركة النص قابلية على الانفتاح نحو استلهام مآثر تلك الشخصيات والأحدث التي مرت بها مثل (الزير سالم وجساس والعرجي والملكة بلقيس والزباء الملكة التي لها قصر يعد من أقدم القصور التاريخية في الإمارات)، وتلك الطاقات تستلزم ثقافة تاريخية خاصة لكي تنفتح مدياتها أمام القارئ، ونحن في هذا المجال لا نتحدث عن صلات التاريخ بقدر اهتمامنا بتأويل النص والبحث في شعريته. الطاقة الكامنة في العناصر التاريخية قابلة للتحول باتجاهات قرائية مختلفة وتلك فرصة القارئ في استيعاب النص وتأويله وسد ثغرات التلقي فيه. لقد استطاع الشحي أن يرتقي منذ بداية القصيدة إلى الشعرية ففي البيت الثاني يقول (مطوفاً حول المآسي مرغماً / أمشي على وجع الليالي حافيا)، وفي البيت الثالث يقول (أمشي وقد هدّ الزمان تصبري/ واستوطن الجرح الندي كيانيا)، وهنا تبدو الصورة الشعرية واضحة والعلاقات بين عناصر البيتين الشعريين فيها لغة خاصة تتجاوز المألوف كما في الطواف حول المأساة، المشي على الوجع حافياً، الجرح المستوطن الذات. إن هذه العلاقات على الرغم من وضوحها إلاّ أنها ارتفعت بعلاقة النص مع القارئ إلى مستوى الشعر، لأن النص لم يلجأ إلى المعتاد من تفاصيل البوح الشعري بل رسم صورة أخرى تفترق عن الواقع، وهي في الوقت نفسه لا تنفصل عنه كلياً، وهذه البداية الشعرية أتاحت لنسق القصيدة بناء علاقتها مع القارئ على أساس وجود لغة أخرى تنتظره بما لا يتوقعه، وما لا يُتوقع يعرف في نظريات القراءة (بكسر الانتظار). وكانت الصور السابقة خارج توقع القارئ، خاصة في ما يتعلق بالموقف من جلفار الذي يختلف مع العنوان (اضاعوني)، وإذا نظرنا إلى هذا التعارض بين مقدمة النص والعنوان نجد له تمثلات أخرى في النص الكلي، ويمكن تقسيمه على ثلاث مراحل: المقدمة والمركز والخاتمة، والعلاقة بين المقدمة والخاتمة علاقة ترابط كلي، فالخاتمة هي النتيجة النهائية التي يصل إليها النص وهي المسوغ لوجود المقدمة. الترابط مسألة تحسب لمصلحة القصيدة وهي مزية طالما عبر النقد العربي القديم عنها من خلال إشادته بالعلاقة المباشرة (بين البيت وأخيه لا بين البيت وابن عمه)، وإذا ما حللنا كلية النص منطلقين من المقدمة نجدها تبدأ من جلفار (الذهاب إلى جلفار): وهذا يفتح التأويل إلى الذهاب نحو التاريخ، وهذا الاستنتاج تسوغه حمولات التاريخ المختلفة في القصيدة. أمّا المركز أو نواة النص فيمكن إجمالها بالأبيات الآتية: (أعلى الولاء يزايدون بغيهم ولكم زرعت بخافقي جلفاريا)، (جلفار والأيام سفر بيننا هل كنت إلاّ المخلص المتفانيا)، (يا دار حسبك أنني بك هائم لم يبق حبك في فؤادي باقيا)، في هذا المركز النصي يعلن الشاعر عن حقيقة عدم قدرته على الانفصال عن جلفار، لأنها التاريخ والوجود والحاضر والمستقبل، وأن عشق جلفار لا يفوقه أي عشق آخر، وفي المركز النصي اعتراف بأن التقصير ممكن في كل شيء إلاّ الوطن، فهو الحياة التي تحتاج التضحية المستمرة (هل كنت إلاّ المخلص المتفانيا)، هذا المركز تم تدويره في القصيدة باتجاهات مختلفة، منها العلاقة مع الآخر التي تتراوح بين القبول والرفض، ولكن هذه الثنائية تتلاشى أمام الوطن وتصبح واحدة في الحب، وقد أغنى الشحي هذه الفكرة الدائرة في النص بلغة شعرية عالية استعمل فيها إيقاع التوازي ليزيد من قوة إيقاع البحر الشعري كما في هذه الأبيات: (كل المواكب للكواكب سافرت/ إلاّ دروبي لا تزال جواثيا)، (والهاجس المزروع في رئة الرؤى/ أدمى طموحي واستباح صوابيا)، في هذين البيتين هناك علاقة انسجام صوتي (المواكب الكواكب، رئة الرؤى) يقابله افتراق مضموني، ففي الوقت الذي تبدو العلاقة الصوتية بين المواكب والكواكب منسجمة إلاّ أن الافتراق في الصورة يتضح في بقاء دروب الذات في مكانها (جاثية)، وهي صورة مفترقة عن صورة المقدمة التي كانت فيها الذات هي التي تقود الحجيج إلى جلفار. وهذا الاشتغال هو الذي يعيد القراء إلى قصيدة العرجي (أضاعوني)، وهو نفسه الذي يعبر عن حالة الذات التي لخصها المركز النصي بطريقة مختلفة، إذاً، هناك مستويات في موقف الذات من الآخر، وهناك مستوى واحد في التعلق بالوطن، وهذا الموقف الذي يتراوح بين الالتصاق الكلي بالوطن، والمراوحة في العلاقة مع الآخر داخل الوطن، تتضح نتائجه في نهاية القصيدة التي نصل اليها بعد سطور، ومن علاقات التوازي الصوتي الأخرى في النص (أساطيل أساطير) (الجفا مجداف) (أشقى الشقاء)، أمّا الخاتمة فقد مثلت اختصاراً لدورة النص ونتيجة لحركته، كما في البيتين الآتيين: (قسماً بمن رفع السماء وزانها/ سأظل يا جلفار رمشاً حاميا)، (الأم ثم الأم قيلت حكمة/ وأنا حفظت بمقلتي أوطانيا) في هذين البيتين هناك صعود في العلاقة مع الوطن، فالصورة الأولى تشير إلى أن الوطن هو العين وأن الذات الأنا هي الرمش الذي يحفظ العين من كل غريب يدخلها، وهذه الفكرة تزداد اتساعاً عندما يصرح الشاعر أن الوطن ليس هو العين فحسب، بل هو المكان الخاص في العين (المقلة) وحفظه في المقل هو المكان الطبيعي له، هذا الصعود في الفكرة والتركيز عليها في النص يرتبط بالمقدمة في عدّ الذهاب إلى الوطن بمنزلة الحجيج، والملاحظ هنا أن البيتين الأول والثاني من مقدمة القصيدة عبرا عن حركة من الذات باتجاه الوطن، وقد خاضت الذات رحلتها مع الوطن والآخر في المركز النصي، أما الخاتمة فقد عبرت عن الاستقرار، أي أن التجربة فرزت موقعاً خاصاً بالوطن في العين وفي مقلة العين، وهنا يتضح أن البداية حركة معبرة عن قلق في حين الخاتمة استقرار معبرة عن موقف نهائي وحاسم تجاه الوطن، هذه الدورة النصية تخللتها حركة في الصورة الشعرية ارتفع فيها النص إلى لغة الشعر من دون أن يضعف الفكرة ومن هذه الصور (فاكسر لحونك فوق أوتار الوفا/ واصنع من الأشلاء صوتاً راويا)، (سفني محملة بهمّ قضيتي/ والهمّ بركان يذيب جباليا)، (لكنني والخبز ينهش ساعدي/ والعمر يأكل خلسة أزهاريا)، وإذا ما دققنا في علاقات هذه الأبيات وغيرها في قصيدة الشحي نلاحظ انسجام المتعارضات في الصورة الشعرية وانتاجها للوحدة المتكاملة على الرغم من التعارض، وعلى النحو الآتي: انكسار اللحن للأشلاء صوت راوٍ السفن محملة بهمّ الهم بركان يذيب الجبال الخبز ينهش الساعد العمر يأكل الأزهار. هذه الاستعارات والمجازات في لغة القصيدة وغيرها كانت توقظ التلقي لدى القارئ بين كل مجموعة من الأبيات، وتعمل على استمرارية شعرية النص وإنتاج لغته الخاصة، لذلك لم يكن المضمون الواضح والمتسلسل ذا أثر كبير في أضعاف شعرية النص، بل على العكس من ذلك، إذ تحسب للشحي قدرته المتميزة على انتاج الشعري من نص مباشر ومضمون سياسي، فضلاً عن قدرته على المناورة باللغة بحيث يجعلها قادرة على الوصول إلى مختلف مستويات التلقي، ولكل مستوى تأويل خاص بالنص، فالحمولة التاريخية فيه تستلزم ثقافة تاريخية خاصة، ليس في الأحداث فحسب، بل في الشعر أيضاً، ومثال ذلك ورود اسم (شهاب الدين) في النص الذي يستلزم معرفة ببيت شعري قديم، ومع هذه الحمولة التاريخية في النص، إلاّ انه استطاع الوصول إلى القارئ العادي بسبب سلاسة لغته ووضوح مقصده وصوره الشعرية المترابطة، إنه نص سياسي فني يدخل من بوابة اللغة الشعرية إلى عالم المعاصرة على الرغم من بنيته التقليدية التاريخية.
مشاركة :