عزمي عبد الوهاب تبحث رواية سماء قريبة من بيتنا للروائية السورية شهلا العجيلي في خريطة التحولات التي اعترت الشرق الأوسط منذ نهايات القرن التاسع عشر، مروراً بحربين عالميتين، إلى اللحظة الراهنة، لكن برؤية روائية بعيدة عن الرؤية السياسية أو عن معطيات التاريخ كما تصوره الأنساق السلطوية، إنها حكايات عن حياة أفراد عاديين وتتبع لأصولهم العائلية، وهوياتهم الجغرافية وطموحاتهم وآمالهم، ورغباتهم في الحب والحياة وهم يصارعون أقداراً قاسية ،كما تقتضي الرؤية الملحمية التي اعتمدتها في هذه الرواية. سماء قريبة من بيتنا هي الرواية الثالثة لشهلا بعد روايتيها عين الهر وسجاد عجمي وهي تقول في زيارة الخليج لها: أحاول أن أكتب تحت ظل الكلاسيكية، ما يمكن أن أسميه كلاسيكية جديدة، فيها حكايات متماسكة ومؤثرة، تقف في وجه فوضى العالم، ورخاوة الأشكال الفنية، وهي مسألة ليست بالهينة، وأعتقد بحدسي النقدي أننا بحاجة إلى مثل هذا النوع من الكتابة، جعلت كل فصل من الفصول العشرة في الرواية يحكي عن جغرافيا محددة تخضع لحدث كبير يغير فيها، بكثير من الحس الطفولي والدعابة. استعارت شهلا العجيلي عيون الأطفال ولغتهم، أحبت زمن كتابة الرواية حتى أنها منعتها عدة مرات من أن تنتهي، واستعارت فيها مشاهد من طفولتها، وغامرت في صناعة علاقات إنسانية غير مألوفة، وتأثرت بشخصياتها، بأشكالها ولغتها وبراءتها أحياناً، وكأنها ليست من كتبها، وحينما تراجع المراحل السابقة، التي تصنع نصها الإبداعي، تجد أن التجارب والخبرات التي يتعرض لها الإنسان تتحول إلى طاقة فاعلة في الكتابة. تقول: المرجعيات التي صنعتني مرجعيات ثقافية معرفية منحَتها هوية متعددة ومفتوحة، يدعمها الجانب الثقافي من العائلة، كما صنعتها القراءة، والمدرسة، والجامعة، وكذلك الثقافة غير العالمة، التي نسميها الموروث الشعبي، إذ أنتمي إلى بيئة ذات موروث دامغ تعيش عليه، فالرقة ليست مدينة بالمعنى الحداثي، هي مزيج من العشيرة والعائلة والريف والبادية، والانفتاح والانغلاق، تلك المرجعيات كلها تعرضت للغربلة عبر الدراسة والمنهج، فصرت أستفيد منها من غير أن أخضع لها، فلا تتحكم بخبراتي ومحاكماتي، الطفولة مخزن الكتابة، وكلما تقدم بنا العمر، نعود إلى الماضي حيث مستودع الخبرات والمشاعر، وحيث الدهشة الأولى التي تحتاج إليها الكتابة، كونديرا قال ذات مرة: إننا نعيد كتابة سيرتنا بلا توقف، ونمنح دلالات جديدة للأشياء. بالنسبة للشخصية الفنية في روايات شهلا العجيلي فإنها تحب الشخصيات المهزومة، التي تبذل جهدها لتكون، لكن العالم يخذلها، تتعاطف معها، وتشعر تجاهها بالتقصير، تحب الهشاشة المضمرة الحقيقية، والأبطال التراجيديين، وتميل إلى النساء القويات بقدرتهن على الصفح، وتفضل الرجال الذين لم تقف الهزيمة في وجه كرمهم، أولئك القادرون على العطاء، ولا يخشون من البوح الصادق بالحب، تمقت الجبناء والبخلاء، وتستمتع بتصويرهم بطريقة دقيقة ومنفرة، تشير إلى أن والت ويتمان قال في أوراق العشب: أنا لا أعزف ألحاناً للمنتصرين فحسب، أعزف أناشيد للمهزومين والقتلى، السقوط مجيد، فالمعارك تُخسر بالروح ذاتها التي تُربح بها، ليعيش هؤلاء المخفقون، وهؤلاء الذين غاصت مراكبهم في البحر. توضح: أعتقد أنني من الكتاب الذين يملكون مشروعاً في الكتابة لا يتناقض مع مشروعهم في الحياة، لدي ثوابت، وقيم، وانتماء، تصدر عنها كتابتي بشكل غير مباشر أو مصطنع، أنتمي إلى الثقافة العربية الإسلامية، كما أفهمها، بعيداً عن الرؤية السائدة، تعرفت إليها من خلال تجارب ومواجهات كثيرة وقاسية مع النصوص، والتاريخ، وكتب التراث من المشارب كافة، لست عنيدة، وأحب المعرفة، وأقرأ كل شيء، وأسمع الآراء كلها، وأمقت الازدراء والاستصغار، ولست عنيفة لا في لغتي ولا في أدائي اليومي، وما يجب أن أشير إليه لأنه يفيدني في الكتابة، وهو أنني حينما أقابل الأفضل، أستسلم وأحوله إلى معلم، أعتقد أن ذلك باجتماعه يصنع كتابتي. تتخذ شهلا العجيلي مواقف واضحة، لا تعبر عنها بعشوائية، ولا تدخل من أجلها جدالات مع الذين لا يسمعون، أو يتمترسون وراء ذرائعية ضيقة، تعبر عن مواقفها بالكتابة، بمقال مسؤول، لذلك فالكتابة تعبير عن موقفها تجاه العالم، لا تجاه الأشخاص، ولا تكون رد فعل آني أو انتقام، هي أعمق من ذلك، تقول: حينما يقول لك كاتب إن الكتابة فعل حياة، ضد الموت، فهو صادق تماماً، إنها أبعد من الحدث اليومي أو من الجغرافيا، أو من الهويات الضيقة أو المفروضة أو المتوارثة، بالنسبة للكاتب هي ضميره، ولنتخيل كاتباً بلا ضمير العائلة هي المحفز الأول لدخول شهلا عالم الأدب، والذي يبدأ بشكل طبيعي بالقراءة، أمها هي التي اهتمت بذلك، كان لديها برنامج مرتب ويومي، لا تحيد عنه مهما كانت أعباؤها، كانت تقرأ لها يومياً من القصص العالمية، وتسألها عن الأحداث والشخصيات، وعن انطباعاتها، ثم تأخذ في تحفيظها الشعر العربي في وقت مبكر، ولم يكن ذلك النشاط تلقينياً، إذ كانت تشرح لها معاني المفردات، ثم الأبيات، والقيم وما إلى ذلك، وبدأت من هنا علاقتها مع الشعر العربي، لم تكن تجاوزت الثامنة من عمرها، بعدها ذهبت نحو قصص الأنبياء التي أنجزتها كمهمة للعطلة الصيفية، انفتحت أمامها مكتبة البيت سريعاً، وبلا رقابة تقريباً، وبدأت يدها تمتد إلى دواوين الشعر، كان يجذبها غلاف ديوان الهوى والشباب لبشارة الخوري، لا تزال تحفظ منه قصائد، وبعدها نزار قباني، وكانت لها معهما علاقة خاصة، لأن دواوينهما كانت تحمل إهداءات شخصية موقعة باسميهما إلى أبيها أو إلى عمها الدكتور عبد السلام العجيلي. تقول: إن وجود عمي الدكتور عبد السلام معنا في بيتنا، كان له بالغ الأثر في توجيهي الثقافي عموماً، كل ما يحكيه عمي ،رحمه الله، حتى لوكان أمراً عادياً يتعلق بمرضاه أو بشؤون الأسرة، كان له طابع حكائي، ثم أثمرت مراقبتي لنجاحه، وتفوقه، ومحبة الناس له، وبريده، ومعارفه، ولغته، إذ جعلتني أحب أن أخوض غمار عالم اللغة والأدب، سيطرت علّي فكرة النجاح، وكان أمامي نموذج آخر هو أبي، الذي كان أول مهندس في المدينة، وكان أول خريج لجامعة أمريكية، أبي رسام مبدع، ومعماري مثقف برؤية خاصة، ثقافته العميقة صقلت الحرفة، يقول لي: العمارة بلا ثقافة تشويه وقبح، ويردد قول حسن فتحي: البيت اللي العيال ما يعرفوش يلعبوا فيه الاستغماية مش بيت وهكذا تخلق لدي المعمار الروائي، استفدت كثيراً من عمارة أبي في بنائي الروائي، وكنت أجمع الحكايات في عقلي، لم أر نفسي في أي يوم شاعرة، مع أنني أحببت الشعر جداً، ولا أستطيع أن أكتب بلا قراءات شعرية. توضح شهلا العجيلي: بدأت أقرأ أعمال عمي السردية، بدأت ب باسمة بين الدموع ثم قناديل إشبيلية والخيل والنساء وبنت الساحرة... وبعدها نجيب محفوظ، ومحمد عبد الحليم عبد الله، وإحسان عبد القدوس، ثم دستويفسكي، وتولستوي، وهمنغواي، وديكنز... وصرت أدرك المفارقات بين الفن والواقع، وبين الشخصية الحقيقية والروائية، وفكرة التابو، لم أكتب إلا حينما دخلت كلية الآداب - قسم اللغة العربية - جامعة حلب، حيث بدأت تظهر محبتي للبحث، وتفوقت في دراستي، وكتبت قصتي الأولى في السنة الرابعة ربما، ولم أصدر مجموعتي إلا بعدها بست سنوات أو سبع، صبرت كثيراً على الكتابة، وكنت أجد أن على القراءة والمعرفة أن يأخذا مداهما المعقول قبل أن نلقي بنصوصنا بين أيدي القراء، نشر النصوص الأولى احتاج مني إلى شجاعة حد المغامرة، إذ خلفي تاريخ مشرق في الكتابة، وليس من حقي أن أسيء إليه، قدمت نصوصي إلى الناشر، ولم يقرأها أحد إلا وهي منشورة، ثم تخصصت في الأدب العربي الحديث والدراسات الثقافية، وحصلت على الدكتوراه، وذهبت إلى العمل الأكاديمي. تستند شهلا العجيلي إلى ما قالته ألفريدا يلينيك: النساء محبطات لأنهن نساء وإنها حيثما تضرب بفأسها يجب ألا ينبت عشب وتترك هي بصمتها قائلة: نحن النساء في هذا الجزء من العالم برغم تجاربنا القاسية، لدينا موروث من الخصب والنماء، لدينا الكثير من المسؤوليات التي تمنعنا من أن نذهب في الإحباط حد النهاية البائسة التي تذهب إليها يلينيك فتفاصيلنا كلها حكايات، حكاياتنا تأتي مع الولادة والحليب ورعاية الآخرين، ومع الحرب والفقر، والتهجير، لا يمكننا أن نتخلى أو نستسلم، من أجل الآخرين طبعاً، هذا ما أورثتنا إياه الثقافة، هو موروث مرهق، لكننا اعتدناه، وأضفينا عليه فكرة المنح والكرم الأنثوي الذي، يتسق مع الشمس، ورائحة القمح، وحكايات الرعاة، وطقوس الدفن والزواج، ونحاول أن نتحايل عليه بتطعيمه بأفكار الحداثة، هذا ما يجعلني أوافق على مصطلح الأدب النسوي، في وجهه الجديد، والذي يعني أن نكتب متخلين عن الأحقاد، وأن نحكي عن تجاربنا التاريخية في القهر بمحبة، تماماً كما يحكي المرء عن عضو مشوه في جسده، عضو لازمه طويلاً، فأحبه بدافع الألفة، أو أن نحكي عن تجربة صعبة نرويها للآخرين ليتجنبوها، نحكي باعتزاز لأننا خضناها بشجاعة رغم الآلام التي رافقتها، ببساطة نحول الألم والازدراء إلى طاقة إبداعية. تقول: المرأة تمتلك أفقاً أوسع للكتابة، بسبب ذهنية التفاصيل، وهذا شيء فيزيولوجي، وبسبب الهرمونات المحفزة على الإبداع، وبسبب امتلاكها لقضية خاصة زيادة على القضايا العامة التي تتشارك فيها مع الرجل، وبسبب تجاربها المحاطة بالسرية والتوجس والشك، والملتبسة مع فكرة الخطيئة، تلك كلها ثيمات كتابية، يمكننا باستعمالها تحويل حياة من حولنا إلى نجاح وجمال، كما حولت النسويات عبر التاريخ مفهوم الشرف إلى مفهوم أكثر عملية ومعاصرة هو مفهوم الكرامة، وحولن فكرة العمل من حاجة إلى قيمة، نسائي شديدات التنوع، وحاضرات في تفاصيل كتابتي كلها، ستجد الخاضعة، والمسيطرة، والناجحة، والمخفقة، والمريضة، والصحيحة، والبتول، والخاطئة... سيطرة نموذج لا يصنع حالة روائية، الدراما هي حوار الأضداد وحركتها معاً، علينا في خضم هذه الحركة أن نعرف متى نسدل الستار كما يقول ستانسلافسكي وكيف نسدله أيضاً.
مشاركة :