شهلا العجيلي تروي أزمنة «داعش»

  • 5/30/2014
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

في مستهل هيمنة الرايات السود على مدينة ومحافظة الرقة، اختطِف لفترة والد الكاتبة السورية شهلا العجيلي. كانت أفادتني في تونس منذ 2010 أنها شرعت بحفرية روائية في تاريخ مدينتها، بعنوان «سجاد عجمي». وتذيلت الرواية بتاريخ الانتهاء من كتابتها: (5/7/2012)، أي إن أكثر من سنة من زمن كتابة الرواية قد كان بينما سورية تتزلزل منذ آذار 2011. فهل هي البصيرة الروائية ما جعل الكاتبة تختار لحظة «داعشية» بامتياز من تاريخ الرقة، تخاطب اللحظة «الداعشية» الراهنة؟ تطوي «سجاد عجمي» قروناً خلت لتبدأ بدخول الوالي الجديد سعد ومعاونيه إلى الرقة التي لم تألف تغيير ولاتها، وأهلها يميلون إلى دعة العيش وحب السلم، وقد كفاهم الله مشقة دروب السياسة والعسكر. لكنهم أدركوا منذ زمن أنهم بين جمرة متقدة في العراق، وجمرة تحت الرماد في الشام. وسوف تشرع الرواية منذ هذه البداية بمغامرتها الكبرى في السرد باللغة الموسومة بالتراثية، والتي يسود الاعتقاد، منذ غادرت الرواية العربية فجرها، بأنها ليست لغة روائية معاصرة. بيد أن مغامرات نزرة، لكنها كبرى، برهنت على العكس، منذ أرسل محمود المسعدي (حدّث أبو هريرة) إلى روايات إميل حبيبي وغازي القصيبي وصلاح الدين بوجاه وجمال الغيطاني... وصولاً إلى شهلا العجيلي التي قدمت بمكر الفن شخصياتها، وغزلت أحداثها وعلاقاتها باتجاه الفجر المدمّر. وعبر ذلك نسجت قصص الحب، ابتداءً بقصة لبانة العشرينية، وقدمت من بغداد إلى الرقة «عليها ثوب من الكتان الأبيض، مطرز عند الصدر بخيوط من القصب الأصفر، وقد لفّت شعرها بخمار فيروزي عقصته إلى الخلف...».   مكائد ودماء بهذا الوصف الذي سيتواتر ويتضاعف ألقه كلما قدمت الرواية شخصية، تظهر لبانة التي درست النسخ والترجمة عن السريانية في دير زكا قرب الرقة، وأحبت العالِم الذي وفد من بغداد وتزوجته ورحلت معه. لكن الخليفة أوفد العالم إلى خراسان ليقيم فيها مكتبة على شاكلة مكتبة بغداد، فتزوج ثمة، فعادت لبانة التي عملت نسّاخة في بغداد العامرة بدكاكين الوراقة. وستلتقي لبانة في الزمن الداعشي الأول الذي أذبل ليلك الرقة، بعبد الرحمن الباجي الطبرقي. ومن العشق والزواج إلى الرحيل إلى ليبيا، موطن هذا المبدع في نسج السجاد، تكتمل قصة لبانة التي حملت سراً النسخة الوحيدة من «كتاب فاطمة» الذي نسيه المقتتلون بسببه، ليتذكروا الدماء وحسب. لقد وفد الوالي سعد وهمّه ومهمته هي «كتاب فاطمة» الذي تناقلت الأخبار أنه من إرث الشيعة في الرقة منذ أيام صفين. وسعد يعلل مهمته بوأد الفتنة، لأن هذا الإرث إن ظهر إلى العلن، أثار الدماء من جديد. لكن سعد يعلن أيضاً وأولاً أن القصد هو ألا تقوم للشيعة قائمة في تلك الأرض. وهكذا يعجل على أهل الرقة انقطاع الأواصر بينهم، ويساوي الخوف من المجهول بين ضعيفهم وقويهم، وتفشو الفوضى حتى في قصر الولاية، وتُحاك المكائد، وتهب ريح الشقاق على أهل الإدارة والحكم، حتى تبلغ صفوف العسكر. وتتواتر أحاديث القتل والتنكيل، مما يدور بين جند الوالي والخارجين على الدولة حول الرقة، حيث يختبئ ملثمون مسلحون لم يعرفْ كنه أهوائهم ولا أسماء قادتهم. وقد كان هؤلاء يصيحون بالعزة والجلالة، ما حزّ في نفوس بعض من جند الوالي سعد التائهين بين الولاء لقيادتهم وبين انتصارهم لدعوة بعض أهل الفضاء المترامي أمس واليوم من الرقة إلى الحدود العراقية، وهي الدعوة التي تكفّر الخليفة وواليه وقادته، ومن اتبع ملتهم . من ذلك الأمس التاريخي الروائي إلى راهن القراءة السوري، تتعزز تهجية الأزمنة الداعشية في الرقة فيتساءل صوت عن الجهل الذي حلّ، وعن تكدير العيش وسفك الدماء من أجل خصام «لا أصل له بيننا وبين من نحن بينهم وهم بيننا». ويجزم صوت بأن لا أحد في الرقة يعلم فحوى ما يقتتل الناس من أجله «وهذا أعجب العجب». وهكذا وبلغة الرواية وسرديتها التراثية: خرج بلاء الفتنة من الصدور، وأوغل في الزرع والضرع، وانتشرت الفاقة نتيجة عَطَلة السوق واحتجاز مقدرات البلاد لدعم الجندية، عدا عن الذعر الذي انتاب العباد، ونقرأ: « كان أهل المدينة يستيقظون كل يوم على خبر قتل وفقد وتنكيل، حتى أن واحدهم بات ينام ليلاً ولا يعرف إذا ما قدر له أن يصبح، هل سيصبح في داره أم في السجن أم في الطريق!». ذات صباح أفاق أهل الرقة على أربع جثث لفتيات عاريات، وجدت طافية على وجه الفرات، بعد أن تم إيذاؤها بقسوة. وسرت شائعات عن اختطاف الجند للفتيات واغتصابهن ورميهن في النهر. ولما بلغ الأمر أشدّه، أضرب أهل الرقة عن العمل، وأعلنوا نصرتهم للخارجين على الجيش، ولمن يعارضون حكم الوالي سعد، وأخذوا يقنصون جنده، ويحرقون مخازن مؤونته وسلاحه، بينما أقبل مدد أعدائه من بلاد الروم.   الرقة الكئيبة لم تعد الرقة تلك المدينة البهية، إذ خلت الدروب الموصلة إلى الفرات من أنس العشق والمتنزهين، كما خلت المقاصف من صخب اللاهين، وجثمت الكآبة على زرع الرقة وعمرانها، وبدا الفرات حزيناً وكامداً، وتبددت قصص الحب والفن التي نسجتها الرواية قبل أن يحل الزمن الداعشي. ففي قصة لبانة أيضاً عشق ابن العم سليمان الذي كان مغرماً بالسجاد منذ طفولته، وكانت أمه تحوك السجاد على نولها في ديرزكا. وقد غادر سليمان إلى تبريز، حيث تكشفت له أسرار السجاد: إحكام الحرفة الفارسية مع نقوش يبتدعها، وفيها روح موطنه الرقة حيث تجتمع فنون الشام والعراق وبلاد الروم. يقترن الحب بالفن، والفن هنا هو ما أعطى للرواية عنوانها «سجاد عجمي». فسّجاد سليمان غني بالألوان الغامقة، وهو يستعمل العقدة البيزنطية التي يشتهر بها السجاد التبريزي، بينما غيره من النساجين في بلاد فارس يؤثر العقدة الفارسية. وفي نسج سليمان تشيع الأرضيات شبه المفرغة ذات الأساس الحريري، وهو أول من ابتدع الكتابة على الأطراف. وتتقد هنا خبرة الروائية في مواد روايتها، إنْ في السجاد أو في الخزف، كما اتقدت خبرتها بالأحجار الكريمة في روايتها «عين الهر». فهذه جيهان أفضل مساعدات سليمان، والتي سماها ديجور، تلعب أصابعها على جسد السجادة الذي يتخلق بينها في حركة موقّعة ورزينة. وسجادات سليمان تحمل توقيعه دوماً: شجرة الزيتون الذي يكثر في الرقة، بينما يقل النخل، بينما تشيع صورة النخلة في أغلب السجاد. وسليمان يجمع إلى صور الحيوان والطير تحت الشجرة وحولها، صورة لجسدين مبهمين، تضيع ملامحهما بين شكل الإنسان والحيوان ومثل تلك التصاوير تغيب تماماً عن غيره. أما الخزف فيحضر على يد ريّا الخزافة المتزوجة من ابن عمها، لكن هواها ليس فيه. وسيعلقها الوالي سعد الذي ستدمر خيله ما أفنت ريّا روحها وزمانها في شغله، من الخزف، وهي التي تصنع الجرار والدنان والكؤوس والمحابر والأختام والقلائد، وتعد التراب بنفسها، ولا تطلع أحداً على سر خلطتها. وقد جعلها ما عاشته من قصة الحب تشبّه الهوى في الرقة بنهر الفرات: لا ينبع منها ولا يصب فيها. لكن قصص الحب الأخرى في الرواية تجعل الفرات رقّيا، ومنها قصة «حرز» دليل المدينة، والرقّي المجنون بالعشق. وكذلك هي قصة محبوبة عازفة العود المطربة، مع عاشقيها. وفي قصة محبوبة ما يضيف الغناء إلى اقتران الحب بالفن في هذه الرواية. من الوصف الذي خصت الرواية به المرأة على لسان أحدى شخصياتها أن المرأة الأُنُف مثلها مثل الكأس الأُنُف: لم تُشرب من قبل، بينما المرأة المزّة مثل المزة من الخمر: تلدعك، والمصفوفة من النساء تتحول من خليل إلى خليل كما الخمرة المصفوفة تتحول من إناء إلى إناء. والمرأة الشموس تجمح بك كما تنزو الخمرة الشموس عند المزج. أما المرأة المقتولة، فكالخمرة التي يقتلها الإفراط في مزجها. وبمثل هذه الجمالية الصورية واللغوية تتألق رواية «سجاد عجمي» وهي كأنما لا تحفر في الزمن الداعشي الأول، بل في هذا الزمن الداعشي الرابض على الصدر الرقّي، بل على الصدر السوري الذبيح كله. روايةآداب وفنون

مشاركة :