لقبت بالمرأة الحديدية، ابنة أسرة سورية ارستقراطية عريقة ثقافيا واجتماعيا وسياسيا تصوغ حروفها بمداد المحبة، وتبحث عن قارئ رفيع الذوق حساس، مأزوم نظيف من الداخل والخارج، يحتار في تقديمها للآخرين، أهي قاصة أم روائية أو نقول عنها الناقدة والأكاديمية ..تأمل مؤلفة « سجاد عجمي « والرواية المثقفة « عين الهر « الروائية شهلا العجيلي من المثقف أن يكتفي بدوره التنويري وأن يكتب وفق قناعاته ويدافع عنها، ويحاول تقبل الآخر بعيدا عن التعنت أو السلبية في علاقته معه، في الوقت ذاته تدعو المثقفين الكف عن منازعة السياسيين والعسكر وأصحاب الأموال على أدوارهم فهي ترى أن رغبات المثقفين القيادية والسياسية تسببت في كوارث كبرى على أثرهم فقدوا مصداقيتهم وساقوا الشباب المؤمن بهم إلى الهاوية، عن الرواية تقول شهلا هي جزء من مدونة تاريخية أو سياسية الأنساق بل هي البديل عن الفلسفة في طرحها للأسئلة والمحاولات حول الوجود والتأصيل والهوية والمستقبل، كما أنها تتكيف مع المستجدات وتجبرنا على قبول الاختلاف، أما عن النقد فترى الساحة تعاني من قلة الشجعان، وصلت روايتها « سماء قريبة من بيتنا « من منشورات ضفاف إلى القائمة القصيرة لجائزة الرواية العالمية « بوكر « العربية لعام 2016 م، وكان هذا الحوار معها: * ما الكتاب الذي أحدث تأثيرا فيك بعد قراءته. وما نوع التأثير ؟ - من الغبن أن أذكر كتاباً واحداً، فأنا قارئة قديمة ومكثرة، ومررت بمراحل القراءة كلّها التي يفترض أن يمرّ بها القارئ العربيّ الذي سيحترف الكتابة. نشأت على الشعر العربيّ القديم، منذ الثامنة من عمري، وحفظت من عيون قصائده، أذكر النصّ الأوّل: قصيدة حطّان بن المعلّى المعروفة ب (أكبادنا تمشي على الأرضِ)، ثمّ قصيدة السموأل (إنّ الكرام قليلُ)، أمّي هي التي اعتنت بتنشئتي الشعريّة، تختار النصوص، وتفسّر المفردات وتشرح المعاني والقيم، بعدها انتقلت إلى ديوان المتنبّي، وكانت تلك الدواوين متوافرة في مكتبة البيت. لكنّ الديوان الأوّل الذي يخصّني، والذي حصلت عليه هديّة من أمّي أيضاً كان (حصار لمدائح البحر) لمحمود درويش، ما زال يرافقني إلى اليوم، لارتباطه بتلك الذكريات الجميلة! من قراءاتي الشعريّة المبكّرة كان (الهوى والشباب) لبشارة الخوري الملقّب بالأخطل الصغير، ثمّ (نزار قبّاني). كنت أشعر أنّ هذه الكتب جزء منّي، لا سيّما أنّ معظمها كان موقّعاً بإهداءات من أصحابها لوالدي ولعمّي الدكتور عبدالسلام العجيلي، الذي تحوّل بيتنا بوجوده إلى صالون يلتقي فيه الأدباء والمثقّفون والمترجمون والمستشرقون والإعلاميّون الكبار، الذين يأتون من بلاد بعيدة إلى الرقّة قاصدين زيارته. المرحلة التالية والتي لم أتجاوز فيها العاشرة من عمري كانت لقصص الأنبياء، ثمّ قصص النجاح التي أدرجت في سلاسل قصصيّة رائعة بعنوان (الخالدون) و(الناجحون)، بعدها تحوّلت القراءة إلى عادة، وانفتحت أمامي مكتبة البيت بلا رقابة تقريباً وذهبت باتجاه أعمال عبدالسلام العجيلي (باسمة بين الدموع)، و(قناديل إشبيلية)، و(الخيل والنساء)، من قصصه المؤثّرة (بريد معاد) و(كفن حمّود)، لكن لروايته (المغمورون) أثر لن يفارق وجداني، ومازالت بعض مشاهدها ملهمة لي، توجعني، مثل مشهد الغمر، إذ تعوم الأطباق الخشبيّة فوق الماء، ولا تستطيع أيدي أصحابها الوصول إليها، ثمّ نسمع عواء مقلوباً لكلب حزين... من الروايات التي شكّلت وجداني أيضاً روايتا الكاتب السوري فاضل السباعي (رياح كانون)، و(ثمّ أزهر الحزن). بعدها ذهبت باتجاه ما نسمّيه كلاسيكيّات عربيّة، وطبعاً هي تندرج في إطار الرومانسيّة مثل أعمال إحسان عبد القدّوس ومحمد عبدالحليم عبدالله، ثمّ انفتح أمامي عالم نجيب محفوظ: (الثلاثيّة) ف (خان الخليلي). الأزمة التي شكّلتها لي القراءة، فتأثّر بها كلّ من حولي كانت الانفعال الشديد الذي كنت أسلم نفسي له، وهذا ما استعرته لإحدى شخصيّات روايتي (سماء قريبة من بيتنا)، إذ كنت أرفض أن أفصل بين الواقع والخيال بسبب المتعة، وأنخرط في بكاء طويل على المصائر التراجيديّة، وحينما كنت أختلي بالكتاب لا يكن لشيء أن يأخذني منه، أقرأ يوماً وليلة بلا توقّف، ولا أراعي وقت وجبات الطعام، أو مواعيد النوم حتّى أجهز على ما بين يديّ. تأثّرت بتولستوي، ب (آنا كارنينا)، وبدستويفسكي في (المقامر)، في حين قرأت (الجريمة والعقاب) في وقت متأخّر في سنوات الجامعة، وبفلوبير في (مدام بوفاري)، ومونتسكيو في (رسائل فارسيّة)، وبهمنجواي في (جنّة عدن)، برامبو في (فصل من الجحيم)، وبإليوت في (أوراق العشب). أحببت كتب الأخبار العربيّة (الأغاني) و(قطب السرور في أوصاف الخمور)، وبسبب تخصّصي في الأدب قدّر لي أن أقرأ كتباً قد لا يختارها غير المتخصصين، مثلاً رسائل الجاحظ، وأعمال المعرّي ولا سيّما (الصاهل والشاحج). يستهويني أدب الرحلات، ثمّة كتاب رائع صدر مؤخّراً بعنوان (عرب البحر) لجوردي ستيفا، بترجمة الدكتور طلعت شاهين، وكذلك المذكّرات والسير مثل (خارج المكان) لإدوارد سعيد. من عيون كتبي (الإلياذة) لهوميروس، إذ فتحت عيني على أصل الثقافة الأوربيّة، وتكوين شخصيّتها، ثمّ تراجيديات سوفوكليس، وخطب شيشرون، وفنّ الشعر لأرسطو، الذي يعدّ إنجيل دارسي الأدب، وبعدها (يهودي مالطا) كريستوفر مارلو، و(هاملت) شكسبير، القراءات المسرحيّة تحتاج وقفة مطوّلة في الكلام عليها. أقرأ في الفكر والفلسفة، قرأت نيتشه، وهيغل، وماركس، وكانط، وفرويد، وشتراوس، ولاكان، وقرأت فاطمة المرنيسي، ومحمد أركون، وعابد الجابري، وفهمي جدعان، أذكر هنا أسماء، لأنّ أعمال هؤلاء المفكّرين تشكّل سلسلة فكريّة، ترتبط بمشاريع مفتوحة، لابدّ من التورّط فيها. من الأعمال التي أخذتني معها وما تزال (لا أحد ينام في الإسكندريّة) لإبراهيم عبد المجيد، ثمّ أعماله جميعاً و(رحلة بالدسار) و(سمرقند) و(الهويّات القاتلة) لأمين معلوف، والنوفيلات الرائعة مثل (حرير) (أليخاندرو باريكو)، وراوية الأفلام (إيرنان ريبيرا ليتلير) وحوض السباحة (يوكو أوغاوا)، هي أعمال عالميّة حديثة نسبيّاً، أقرأ ما يسعفني الوقت بقراءته من أعمال زملائي وأصدقائي الكتّاب الرائعين... يا إلهي هناك كتب عظيمة، كتب كثيرة، لكنّ الحياة قصيرة! الكلام على الأثر الآنيّ للقراءة ليس بجديد: المحاكاة، والتطهير، والمعرفة. لكنّ الأهمّ بالنسبة لنا بوصفنا كتّاباً هو أن يكون الكتاب ملهماً، وهذا يظهر بعد مرور وقت طويل، إذ اكتشف أنّ لعمل ما أثراً في بناء نصّي، أو صناعة الدراما فيه، أو أنّني أكرّر ثيمة قرأتها يوماً في كتاب، وربّما عبارة، أو حركة يد، أو تقطيبة جبين، كما نكتشف لاحقاً أنّ هناك شخصيّات تمشي معنا دائماً، لكن لا نشعر بخطاها إلاّ عندما نكتب. *ما الكتاب الذي تمنيت لو قرأتيه في وقت مبكر من حياتك؟ - أبداً لا أفكّر بإعادة الترتيب! ربّما لم تكن قراءاتي في البداية ممنهجة بطريقة صارمة، لكن كنت محظوظة بأنّها بدأت من مكتبة البيت العامرة بكتب قيّمة، بسبب جذور عائلتي المثقّفة، ذات الهويّة الواضحة والمفتوحة والمتجدّدة، فنحن ننتمي إلى ثقافة عربيّة إسلاميّة، بعيدة عن التطرّفات وتؤمن بالآخر، لذلك فالكتب التي كانت بين أيدينا كتب متنوّعة، وأيضاً بعيدة عن التطرّفات. في الإطار ذاته كانت بدايتي، بوصفي كاتبة، موفّقة بقراءة الشعر وحفظه، وكذلك بحفظ القرآن الكريم، حيث تتكوّن اللغة الشخصيّة، واللسان القويم، وقد انعكس ذلك بشكل واضح في كتابتي ل (سجّاد عجمي)، التي دائماً أسأل عن لغتها التراثيّة، ويكون الجواب: القراءات الأولى. * هل ترين أن القراءة محرك أو دافع للتغيير في وقتنا الحاضر ؟ - القراءة تبني الفرديّة، يحترم معها الإنسان ذاته وأفكاره، ويتعلّم الصبر واحتلام تجارب الآخرين وأفكارهم، وهذا ما نحتاجه، أن لا نكون أتباعاً، وأن نستطيع محاكمة القضايا، والظواهر والمستجدّات بنوع من الحريّة. لا أقول إنّ هناك كتاباً بشريّاً سحريّاً قادراً على تغيير الناس جميعاً، أو حتّى كاتباً استثنائيّاً، لكن القراءة تغيّر في الأفراد، وقد تجعل حياتهم أقلّ شقاء، أو تخرجهم من حيرتهم، حينما يتشاركون خبرات الآخرين، القراءة عمليّة تنوير. يتعلّق هذا طبعاً بنوعيّة الكتب التي نقرأها، والأشخاص الذين نتشارك معهم تلك الكتب، ومصادرها. ففي مقابل التنوير هناك تضليل. نلاحظ عودة العرب إلى القراءة بشدّة، قد يرجع ذلك إلى انتشار التعليم، وتوافر الكتاب، وشيوع معارض الكتب، ونوادي القراءة، وانفتاح الثقافات، وكذلك لوعي الإنسان العربي بفكرة التنميط، التي وصمته بالجهل والعزوف عن الكتاب. * ما سمات الكتاب الذي يلزمك قراءته كاملا ؟ - أنا صبورة على الكتاب، لا أستسلم من الصفحات الأولى، ونادراً ما تركت كتاباً، بل لا أذكر أنّني فعلت ذلك! ربّما لأنّ اختياراتي تكون أقرب إلى الدقّة، إذ أذهب إلى الكتاب برغبة منّي أو بمزاجي، ولا شكّ في أنّ للوسط دوراً كبيراً في ذلك، إذ أعيش بين الكتّاب والقرّاء والمثقفين ممّا يجعلنا نتناصح في مسألة الكتب. لتبادل الخبرات أهميّة كبيرة في توفير الجهد والوقت، وفي الاستدلال على ما قد يغيب من الكتب والأفكار الملهمة.
مشاركة :