لا يمكن الحديث عن الإرهاب دون الحديث عن التقنية فنشاطات الإرهاب تضاعفت بشكل كبير مع قدرة الإرهاب على استخدام التقنية وقد وصف أحد الباحثين التكنولوجيا بأنها "قوة شيطانية قادرة على الخير الواسع أو الشر الكارثي" العالم اليوم الذي يحاول أن يتكيف مع التكنولوجيا بشكل أفضل لم يعد قادراً على الاستغناء عنها أيضاً سواء استخدمت في الشر أو الخير، فهىى أصبحت جزءا من التكوين البشري وقد وصفت إحدى الصحف الأميركية في مقال نشرته قبل عام كما يقول أحد الباحثين بما نصه " 25 سنة على ولادة شبكة الإنترنت العالمية.. ولا يمكننا العيش دونها". المشهد الإرهابي الذي يمارس القتل يتحدث بلغة فكرية وأيديولوجية يصعب مواجهتها إلا بشروط قاسية، ولكن يمكن إعادة بنائها في المجتمعات من خلال نموذج مختلف للخطاب الفكري السائد في المجتمع الاستخدام المتزايد للتقنية في ظاهرة الإرهاب يعكس حجم الشر الكارثي الذي خلفته التقنية على المجتمعات فالإرهاب في العالم استطاع أن ينفذ مئات العمليات الإرهابية سواء عبر أجهزة التفجير للمواد المتفجرة أو عبر ما أُسميه تقنية (الدفع الفكري والضغط الأيديولوجي) وهو عنوان هذا المقال الذي أحاول فيه طرح الأسئلة المضيئة حول تنامي ظاهرة التأثير التقني بهدف إنتاج المتطرفين، في ظل غياب محور الاهتمام بالأوطان كمحرك رئيس للمجتمعات. ولعل السؤال الذي أطرحه هنا يقول: إذا كانت قد تكونت لدينا القدرة في المجتمع على تفكيك الإرهاب وفق محاصرته (أمنياً) وتتبع منفذيه والقبض عليهم، فهل نتمتع بنفس القدرة في مواجهة فكرة (الدفع الفكري الداخلي في مقابل الضغط الأيديولوجي الخارجي)، عبر ظواهر التأثير التي تلعب فيها جماعات التقنية (مجهولو الهوية) دوراً بارزاً في إنتاج متطرفين وتوجيه ممارساتهم الإرهابية، عبر القيام بعملية تلقيح انحرافي يستثمر الدفع الفكري الذاتي ويستغل الضغط الأيديولوجي..؟، ولكي تكون الصورة واضحة فما نشاهده اليوم من عمليات إرهابية تجتمع فيها تقنيات التأثير التكنولوجي هي عملية ولادة (إرهابي) ناجحة عبر التلقيح باستخدام (الدفع الفكري الداخلي والضغط الأيديولوجي الخارجي). العمليات الإرهابية خلال الخمس سنوات الماضية شهدت تحولاً تقنياً هائلاً فمنتجات التقنية تتجاوز في إمكانياتها قدرة صانعيها بمعنى دقيق القدرات الذاتية للأفراد يمكن أن تضاعف قدرات التقنية والتكنولوجيا دون الحاجة إلى مهارات الإنتاج نفسه، فالتقنية منتج يمثل وسيلة ولكن غايته لا يمكن التحكم بها مهما كانت، فمثلاً عندما صنعت السيارة كان صانعها يدرك انها وسيلة لغاية محددة ولم تكن القدرات الذاتية خارج مصنع السيارات قادرة على إحداث تغيير أو تطوير في صناعة السيارات، بينما التقنية معتمدة بشكل كبير ليس على مهارة منتجها بل على مستخدمها الذي يحدد هو بنفسه وسائلها وغاياتها. هذه التوطئة تلفت النظر إلى معطيات تظهر بوضوح مع كل عملية إرهابية خلال الخمس سنوات الماضية، فكل إرهابي ظهر عبر التقنية نلحظ في تكوينه ثلاثة معطيات رئيسة لا يمكن إغفالها أولاً: كل إرهابي ظهر عبر هذه التقنية يعاني من دفع فكري ذاتي امتلأ فيه عقله وتشكل بطريقة بنائية عبر مسيرة تعلم من خلالها مجموعة كبيرة من المعارف، بمعنى واضح الخلفية الفكرية للإرهابيين عميقة ومعرفتهم واستدلالاتهم حول قضيتهم التي يتحدثون عنها توحي بأنهم تشربوا هذا الفكر عبر سنوات بطريقة تشبه السيف ذا حدين كلا الطرفين يقطع، وهنا التحدي الأكبر للمجتمع، فما نعاني منه حقيقة هو الكيفية في توظيف المعلومات الدينية خلال سنوات تربوية طويلة. ثانيا: كل إرهابي ظهر عبر هذه التقنية تشكلت لديه فكرة نقدية حادة للمجتمع والسياسة وهذا يعكس أن الخطاب الديني السائد اجتماعياً بحاجة إلى مراجعات عميقة في تفسيراته، فمثلاً كل الإرهابين الذين ظهروا عبر التقنية لديهم ثقة تامة بأنهم يتصرفون وفق مسار ديني اكتسبوه من خلال المجتمع، وهم يعكسون وينتظرون وعود الخطاب الذي تعلموه في المجتمعات (خلافة) وهذا التأصيل في فكرهم جعلهم فكرة سهلة لجماعات التأثير الخارجية، ومن المؤسف أن من يوكل إليهم تجنيد الإرهابين لا يبذلون جهداً كبيراً في الإقناع. ثالثا: كل الإرهابيين تظهر في ملامحهم الفكرية تأثيرات واضحة تدل على أنهم يعانون من ثقل أيديولوجي كبير في عقولهم تجاوز الأسس الطبيعية لممارسة الدين في المجتمع، وهذا يثير سؤالاً مهماً حول حجم الأيديولوجيا التي يتعاطاها هؤلاء الأفراد في المجتمع ومؤسساته سواء التربوية أو الإعلامية أو حتى مؤسساته الدينية، فالإرهابيون خلال الأعوام الخمسة الماضية يشتركون في خاصية واحدة؛ فأعمارهم تتأرجح بين العقدين الثاني والثالث وهذا يعنى الاندفاع والمغامرة بهدف تحويل الفكر الديني إلى مغامرة تنفيذية. التقنية سوف تساهم مع كل أسف بنشر الشر في المجتمعات وسيكون الفرد متحكماً رئيساً في غايات التكنولوجيا، والبشرية سوف تطور الكثير من الأساليب لمواجهتها خلال العقود القادمة، ولكن ذلك لا يعنى الانتظار لأن المطلوب هو إصلاح فوري للمعطيات التي يمكن للتقنية أن تتواجد فيها بشكل كبير فلابد من تحسين البيئة الفكرية والأيديولوجية في المجتمع بهدف تضييق الخناق على الإرهاب بكل أدواته. المشهد الإرهابي الذي يمارس القتل يتحدث بلغة فكرية وأيديولوجية يصعب مواجهتها إلا بشروط قاسية، ولكن يمكن إعادة بنائها في المجتمعات من خلال نموذج مختلف للخطاب الفكري السائد في المجتمع، بمعنى دقيق لابد من القول إن عملية الحد من تنامي العمل الإرهابي في مساره الفكري يتطلب تصحيح المعطيات المتداولة في المجتمع حول الفكر الديني تحديداً. عندما تمارس المجتمعات التدين بلذة كبيرة فإنها تغفل عن الآثار السلبية لهذه اللذة والتي نشاهدها بكل وضوح عبر تجاوزات كبرى في المجتمعات تحت مفهوم الاحتساب أو مفهوم الأمة والسياسة أو مفهوم الكفر والإيمان أو مفهوم الحلال ولحرام أو مفهوم التدين ومستواه وحدوده، المجتمعات التي تتعامل مع الواقع الديني بلذة تطبيقه على المستوى الاجتماعي تنشأ فيها غالباً تيارات متضادة تنتقد بعضها وتتجادل فكرياً وهذا ما يجعل من هذه التكوينات المجتمعية عرضة للتأثير داخلياً وخارجياً. إن الأزمة أن تكون المجتمعات المتمثلة بالأفراد تدور في إطار بعيد عن وطنها ووطنيتها، بمعنى دقيق ألا يكون الوطن هو المحور الحقيقي للظاهرة المجتمعية بحيث تسوده صرعات تقسم الأفراد إلى قسمين كما يحدث في المجتمعات اليوم، لقد أصبحت المعادلة تقسم الأفراد في المجتمعات كما يلي (إما غربي يتبع ثقافة الغرب أو إسلامي يتطلع للخلافة والإسلام السياسي) هذه المعادلة مسحت صوت الوطن الذي أصبح في كثير من مجتعاتنا مجرد مساحة جغرافية خالية من الانتماء والمواطنة فكرياً وثقافياً. أُدرك أن الأزمة معقدة وكبيرة ولكن حلولها ممكنة فمنذ زمن بعيد وحتى هذه اللحظة لازلت متمنياً أن توجد هيئة ثقافية واجتماعية بعيداً عن ربط الثقافة بالإعلام وربط الظاهرة المجتمعية بالعمل والخدمة الاجتماعية، نحن بحاجة إلى وزارة للخدمات المجتمعية ووزارة للإعلام فقط دون الثقافة وهيئة مستقلة للثقافة والمجتمع ترصد وتقيّم وتؤسس وتصنع كل ماهو مرتبط ببناء ثقافة مجتمعية وفكرية محورها الوطن ومستقبله. hussah111@gmail.com
مشاركة :