«نهاية بداية» معركة البنوك المركزية ضد التضخم

  • 7/12/2023
  • 00:43
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

بهذه العبارة وصف مصرف "سوسيتيه جنرال" الوضع الراهن لمعركة البنوك المركزية ضد التضخم، مختصرا جميع ما قامت به تلك البنوك من جهود وقرارات متتالية ومتسارعة برفع معدلات الفائدة، ومؤكدا أنه رغم كل ما تم اتخاذه طوال أكثر من الـ15 شهرا الماضية، خاصة فيما يتعلق برفع معدل الفائدة التي وصل إجمالي قراراتها لأكبر 39 بنكا مركزيا حول العالم منذ مطلع 2022 حتى منتصف العام الجاري، إلى 294 قرارا بالرفع! في المقابل، لم يتجاوز عدد حالات انخفاض معدل التضخم في أكثر من 61 اقتصادا حول العالم سقف 129 حالة انخفاض للتضخم، منذ مطلع 2022 حتى نهاية أيار (مايو) من العام الجاري، وهو ما يؤكد رغم ذلك الزخم الأكبر من القرارات خلال نحو نصف قرن مضى، لا يزال يوجد عديد من العوامل التي تبقي الأسعار الأساسية مرتفعة باستمرار. يأتي هذا التشخيص الصادم لكثيرين، نتيجة عديد من الاعتبارات، يأتي في مقدمتها تأخر مواجهة أغلب البنوك المركزية للتضخم الصاعد منذ مطلع 2021، ظنا بأنه لا يتجاوز كونه تضخما عابرا كما قيمه خطأ "الاحتياطي الفيدرالي" الأمريكي. الاعتبار الثاني ممثلا في بقايا البحر الهائل من السيولة التي ضختها الماليات العامة لحكومات العالم إبان التصدي للجائحة العالمية كوفيد - 19، قدرت ما بين 10 و15 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وما تشكله البقايا الضخمة لتلك السيولة كأحد مغذيات التضخم الراهن عالميا، ما يقتضي الاستمرار في تجفيفها وتشديد السياسات المالية حتى سحب آخر أرصدة فائضة من تلك السيولة في الاقتصادات والأسواق، وهو الأمر الذي لا يزال بعيدا وفق ما تظهره ميزانيات البنوك المركزية خلال الفترة الراهنة. ثالثا، التقت تلك الفوائض من السيولة مع تداعيات الصراع الروسي - الأوكراني، من أبرزها الاضطرابات المستمرة لسلاسل التوريد، ما أوجد بدوره مساحات أكبر للشركات قامت على أثره برفع أسعار منتجاتها وسلعها بأعلى من أي مبررات، وأسهم أيضا في زيادة مناعتها تجاه أي قرارات برفع معدل الفائدة، وتمكنت من إعادة تمويل ميزانياتها العمومية، ومن ثم تمرير أسعار مدخلات أعلى للمستهلكين، الذين يتوقعون الآن أسعارا أعلى للسلع والخدمات "بنك كوكو أغبو-بلوا". رابعا، أشار مصرف "سوسيتيه جنرال" إلى أن سوق العمل لا تزال نشطة جدا، وفي ظل نمو متدن للإنتاجية، ما يرفع بدوره من تكاليف وحدة العمالة، والتسبب من ثم في تشكل حلقة مفرغة سلبية يتسابق فيها ارتفاع كل من الأسعار والأجور! ما يقتضي للخروج من هذا الحالة المستعصية من عناد التضخم، أن البنوك المركزية ستكون بحاجة أكبر إلى إحداث ركود اقتصادي، يترتب عليه زيادة في معدل البطالة، ومن ثم التسبب في إضعاف الطلب بما يكفي، وهو الأمر الذي لم يتم الوصول إليه، مقابل إظهار أسواق العمل لأدنى معدلات بطالة خلال أكثر من خمسة عقود زمنية مضت. يمكن تصور المشهد العام اقتصاديا وماليا على مستوى الاقتصاد العالمي، أنه تراجع بدرجات ملموسة عن قمم التضخم التي وصل إليها في منتصف 2022. هذا منجز يحسب في أغلبه لمصلحة البنوك المركزية، لكن لم تصدر حتى تاريخه المؤشرات الملموسة والحقيقية على التخلص من داء التضخم وأعراضه، ولهذا قد تصح مقولة إن الجميع قد قطع جزءا جيدا من طريق العودة، في الوقت ذاته الذي لا يظهر فيه ما يؤكد متى سيتم قطعه كاملا؟ وهو ما قدر مسافته مصرف "سوسيتيه جنرال" حتى تاريخه، بأنه لم يتجاوز مجرد نهاية لبداية طريق طويل، لم تتبين بدرجة موثوقة نقطة النهاية بالنسبة إليه، ولا أين سيتوقف القطار العالمي، ولا على أي حال ستكون عليه مختلف نشاطات وأسواق العالم. كل هذا ما زالت تغلفه درجات متقلبة من الضبابية، ما إن تخف حدتها في فترات معينة، حتى تعود إلى مزيد من الغموض وبالمفاجآت الصادمة "سقوط كبرى الشركات والبنوك في دائرة الإفلاس، على سبيل المثال لا الحصر". إن ما تقدم إضافة إلى ما تضمنته أغلب التصريحات الأخيرة للبنوك المركزية بقيادة "الاحتياطي الفيدرالي"، يشير إلى أن سلاح رفع الفائدة سيظل مرتفعا في وجه عناد التضخم لفترة قد تمتد إلى ما بين نهاية 2025 إلى مطلع 2026، وخلالها لا شك أن كثيرا من التداعيات الاقتصادية ستشهدها الساحة العالمية، وتنعكس آثارها بين فترة وأخرى على شاشات الأسواق المالية وأسعار الصرف والطاقة والمعادن والعمل، حتى الأسواق العقارية التي تمثل الطرف الأكثر صلابة بحكم طبيعتها في وجه تلك المتغيرات والتقلبات المرتقبة، وبالتأكيد كما أن بدايات تشكل التضخم قد تباينت بين بلد وآخر، فإن نهايات المعركة مع التضخم ستأتي أيضا بالتباين ذاته أو أكثر، ويزداد تعقيد نهاية المعركة بين بلد وآخر، ومنطقة وأخرى تحت التشابك الكبير بين تلك الأطراف، إضافة إلى الارتباط القائم في الأصل بين السياسات النقدية بين البنوك المركزية تحت مظلة تثبيت أسعار صرف العملات مع أسعار العملات الرئيسة "الدولار الأمريكي". ختاما، إذا صح تقييم مصرف "سوسيتيه جنرال" بأن ما سبق من جهود لمحاربة التضخم، لا تتجاوز كونها مجرد نهاية للبداية على ما تضمنته من تقلبات حادة في فترات متقطعة طوال عام ونصف العام مضى، فلا شك أن معالم الطريق المتبقي الذي سيقترن باستمرار معدلات فائدة مرتفعة من جانب، ومن جانب آخر تزايد تصدعات الأسواق وتقلباتها، ومزيدا من ضعف مؤشرات الأداء الاقتصادي وأسواق العمل، يعني في مجمله مزيدا من التحديات والانعكاسات المؤلمة للجميع بنسب متفاوتة لمختلف الدول والاقتصادات، ويعني أيضا تحديات أكبر على الأجهزة المالية والنقدية في مختلف الدول، وهو الأمر الذي يصعب كثيرا تقديره في الفترة الراهنة، وأنه سيبقى رهينا لقراءة وتحليل مستجداتها المرحلية فترة بعد فترة في الأجل القصير، وما سينتج عنها من سياسات مالية ونقدية سيتم اتخاذها حسب حالة كل دولة من الدول.

مشاركة :