فرقٌ كبيرٌ بين أن يكون تعدّد الزوجات أمراً مباحاً وهذا حدّه وبين أن يكون أمراً مرغّباً فيه مؤكداً مدعواً له! وربما استعملته بعض النفوس الضعيفة لتمرير مقاصد غير سامية في محاولة لاجتزاز النصوص عن مقاصدها. والمتأمّل اليوم لكثير من الطرح الشرعيّ والمغالبة الشرعيّة؛ يجد أنّ لدى الكثير منهم تسليماً تامّاً بأنّ التعدّد هو أمرٌ مستحب ويرغّب فيه الإسلام؛ بيد أنّ المتأمّل للشريعة لا يجد أن الإسلام يرغبّ في التعدد لذات التعدّد بل لأمر آخر يدعو له. والأمر المستغرّب أنّ هناك إمالة لكثير من أعناق النصوص القرآنية والسنّة النبويّة عن معناها الصحيح الذي تحدّث عنه المفسّرون وكلّ ذلك لتوافق تأكيدهم على سنّية التعدد؛ غير أن غاية ذلك هو الإباحة ويمكن أن يكون التعدد دائراً مع الأحكام الشرعية الخمسة في أحوال معيّنة. وأشهرُ ما يتعلّق به المنتصرّون لسنّية التعدّد واستحبابه دون تمييز هو قوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا)؛ فتعلّق بعضهم ببدايات الآية وهي قوله تعالى (فانكحوا ما طاب لكم من النساء..) ولم يتنبّهوا أو ينبّهوا لقوله تعالى: (ذلك أدنى أن لا تعولوا)؛ فالله سبحانه رغب في نكاح الواحدة حتى لا يفتقر وتصيبه العيلة، لأنّ من الرجال من ليس عنده سعة في المال فإذا تزوّج ازدادت عليه التكاليف! وهذا المعنى قد ذكره ونصّ عليه كثير من المفسّرين ولكن وللأسف عميت عنه كثير من العقول والأبصار! والأمر الآخر: أن سبب هذا التوجيه الربّاني هو حرص الشارع على اليتيمة أن تُظلم وتُؤذى فقال: (وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء…) فأمر أولياء اليتامى أن لا ينكحوا اليتامى إن كانوا يخشون الظلم لهنّ بقلة الصداق والمهر أو غيرهما ثم أخبرهم أن الباب مفتوحٌ للزواج أمامهم ولهم أن يأخذوا ما شاؤوا من النساء غير هذه اليتيمة لعدد أربعة نساء! والمُحزن حقيقة أن تجد بعض الناس يُرغّب الفقراء أن يتزوّجوا بثانية وثالثة ورابعة ليجدوا بعد ذلك الغنى! مستدلين بآثار اجتهاديّة لا أثر لها في صياغة الأحكام. وما يلبث أحدهم أن يتزوّج ثانية وثالثة فيفتقر ويزداد مسغبة وفاقةً ويتكفّف الناس أعطوه أو منعوه. ويستدلّ بعضهم لذلك بقوله تعالى: (وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُم إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)، وهذه الآية ليست لمن له زوجة حتّى يتزوّج ثانية وثالثة؛ بل لمن كان غير متزّوج بسبب فقره أو عدم وجود ما يُنفقه. والآية تُخبرُ عن الأيم وهي التي لا زوج لها وكذلك الرجل الصالح الذي هو بدون زوجة أنه ينبغي لهم أن لا يترددوا في الزواج بسبب الفقر. وكذلك بالأخص هو خطاب لأولياء الرجل والمرأة أن لا يمنعهم الفقر من تزويج بناتهم أو أولادهم للكفء.. (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله). وهذا وعد من الله تعالى بالغنى لمن أراد الزواج وقصد أن يعصم نفسه ويتعلّق بعضهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان معدّداً؛ ولكنّهم يتجاهلون أن النبي صلى الله عليه وسلم بقي مع أمّنا خديجة رضي الله عنها أكثر من خمس وعشرين سنة لم يتزوّج عليها حتى ماتت. هذه المفاهيم الشرعيّة للأسف هي غائبة أو مغيبة عن كثير من الناس ولا يعلو للأسف إلا بعض أصوات الذكوريّة التي تريد أن تكون السلطة والقوامة لها فحسب دون اكتراث للالتزامات التي يجب أن يُدركها الزوج قبل أن يُبادر إلى الزواج. وها أنت ترى بعض من ابتلي بالتعدّد مشغولاً بجمع لقمة العيش قد ناوشته الفاقة من كلّ جانب وأتته الهموم من كل صوب، وكان الأولى له أن يخطّط لهذه الحياة الجديدة قبل أن يلجها، وأن يدرك أن الدين لا يخالف ناموس الحياة وأنّ دخول معترك التعدد بغير رؤية واضحة هو سبيل للشتات والضياع للزوج والزوجة والولد والأسرة.
مشاركة :