على الرغم من أن الأعمال السردية التزامنية أو المنزوعة من السياق التاريخي، التي تحدَّثت عن "جوهر" الصوفية، قدَّمت نفسَها في الغالب على أنها أكثر اتساقًا مع روح الصوفية؛ فقد توصل أستاذ التاريخِ الإِسلامي بجامعة كاليفورنيا فِي لوس أنجلوس د.نايل جرين إلى وجهة نظر، بعد عقدَيْن من دراسة كتابات الصوفيين، تتمثَّل في أن مشكلة مرورِ الزمن وتغيُّرِ المكان ليست محوريةً فحسب لاهتمامات الصوفيِّين، بل مكوِّنٌ أساسيٌّ في تكوينهم للتقليد الذي توارَثوه أو نُقِل إليهم. فلم يسْعَ الصوفيون إلى الاتحاد مع الله ونبيه محمد من خلال الخروج من دائرة الزمن، وإنما من خلال ربط أنفسهم بسلاسل المعرفة والبركة التي تنقُلهم عبر القرون إلى لحظة نزول الوحي على النبي وترك آدم لمعية الله. وفي صراعاتهم الكثيرة مع المُعضلات الوجودية للحياة البشرية، رجعوا مرارًا وتكرارًا إلى دروسِ الشيوخ الصوفيِّين الأحياء، وكتُبِ الأولياء الأموات الذين أوضحَتْ لهم تعاليمُهم الطريقَ إلى الخلود. قدم جرين في كتابه "الصوفية: نشأتها وتاريخها" الذي صدرت طبعته الانكليزية عام 2012 وترجم أخيرا للعربية بترجمة صفية مختار ومراجعة مصطفى محمد فؤاد وصدر عن مؤسسة هنداوي، تصورا شاملا عن الصوفية ومكانتها في الحياة الاجتماعية لمُمارسيها، وهو تصور ليس إلا نتاج تفاعُلاته مع التراث الحي للتقليد الصوفي في أشكاله المتعدِّدة التي اكتسَبها في مناطق كثيرة مختلفة. وقال "على مدار العشرين سنة التي اخترتُ فيها دراسةَ تقليد الصوفيِّين، قابلتُ بعضهم وألقيتُ نظرةً على تراثهم في أماكن بعيدة مثل المغرب، وإسبانيا، ومصر، وسوريا، واليمن، وتركيا، وإيران، وأفغانستان، والهند، وباكستان، وسنغافورة، وماليزيا، وجنوب أفريقيا، وأوروبا. إن التصور المقدم في هذا الكتاب للصوفية باعتبارها تقليدًا مأخوذٌ في الأساس ممَّا رأيته عمليًّا بين هؤلاء الصوفيين، الذين يزعمون أنهم ورثة النبي محمد". تقدم فصول الكتاب سردًا تاريخيًّا لظهورِ التقليد الصوفي والانتشارِ الاجتماعي والجغرافي الذي صاحَبَ استحواذَه التدريجي على السلطة والمكانة. ويلفت جرين إلى أن الحاجة اقتضت منهلتقديم سردٍ متماسِك وسَلِس وجود تقييمغير مُعلَن على نحوٍ كبير للمصادر الأساسية أو الثانوية المختلفة؛ ومن ثَم، يجب على الطلاب الراغبين في تقييمات تأريخية دقيقة الرجوع إلى المقالات النقدية الحديثة التي كتبها باحثون مثلي ومثل ألكسندر كنيش ودينا لي جال. ولمساعدة القراء في وضع الصوفيين في إطارِ مفاهيم أكبر خاصة بالتاريخ الإسلامي، والتاريخ المقارن، والتاريخ العالمي في نهاية المطاف، قُسِّم سرد الكتاب إلى أربع فترات تقليدية إلى حد كبير، لكنها فترات يُعتقَد أنها تشتمل على تطوُّرات مميزة في التاريخ الصوفي نفسه. وهذه الفترات التي يتناولها الكتاب في أربعة فصول هي كالتالي: فترة أوائل العصور الوسطى (800 ـ 1100) وفترة العصور الوسطى (1100 ـ 1400) وفترة أوائل العصر الحديث (1400 ـ 1800) وفترة العصر الحديث (1800 ـ 2000). الفصول مؤلَّفةٌ بطرقٍ مختلفة على نحوٍ تدريجي؛ فبينما يركِّز الفصل الأول على المفكرين الأوائل والنصوص الأولى اللذَين قدما الأسسَ والمصادر اللاحقة للتقليد الصوفي، يركز الفصل الثاني على العمليات التي تمكن من خلالها هذا التقليد من التكيف والتوسع في سياقات جغرافية واجتماعية مختلفة. ونظرا لتناول الفصل الثالث لفترة التوسع الصوفي ذي الطابع العالمي في أفريقيا وجنوب شرق آسيا وحتى الصين، فإنه يتناول جوانبَ جغرافية، في حين أن الفصل الرابع يلتفت إلى التأريخ السياسي ليتتبَّع أحوال التقليد الصوفي في العصر الحديث، فيما يتعلق بفترتين مترابطتين، هما فترة الاستعمار وفترة عولمة ما بعد الاستعمار". يرى جرين أنه بالتمسُّك بما حوَّله الصوفيون في فترة العصور الوسطى من بلاغة خطابية إلى تقليد راسخ مَلموس، تمكَّنوا من الحفاظ على وضعهم المعياري المُحترَم عندما جعَلَهم انهيارُ السلطة الإسلامية المركزية ممثِّلين مهمين للكيانات القبلية الضعيفة التي ناصَرَتْهم في المقابل. ومع توسعهم حينَها في مناطق حدودية جديدة في جنوب شرق آسيا، وأيضًا في أفريقيا في أوائل العصر الحديث، تمكَّنوا من الحفاظ على مكانتهم هذه حتى بالرغم من اندماجِهم المتزايدِ في دول إمبريالية أكثر قوة، وحملة التصحيح التي أعقبت بداية الألفية الإسلامية عام 1591. وأثناء الانهيار الكبير للقوة التجارية والسياسية الإسلامية في العصر الحديث، كانت الصوفية من بين المؤسسات الإسلامية القليلة الموجودة فيما قبل العصر الحديث، التي نجتْ من الاستعمار الأوروبي بلا تأثُّر إلى حدٍّ كبير. وباعتبار الصوفيين تجسيدًا للتقليد النبوي، وكذلك للتقليد الصوفي في المجتمَعات الكثيرة جدًّا، التي ظلوا يمتلكون فيها الأراضي ويسيطرون على شبكات التعليم والالتحاق بالطرُق الصوفية؛ فإن استمرار مكانتهم البارزة في القرن التاسع عشر جعلهم يَنجذِبون إلى اتجاهاتٍ مختلفة بسبب مطالب كل مِن المريدين المحليين والحكام الاستعماريين. ويشير إلى إن سياسات الإصلاح الإسلامي المعارِضة للصوفية، التي دخلت القرن العشرين وهي واثقة في حالات كثيرة من مكانتها العالية المُكتسَبة من تحالُفاتها الحديثة مع الدول الاستعمارية والدول الإسلامية على حدٍّ سواء؛ جعلت هذا الكيانَ الصوفي هدفًا طبيعيًّا للمُنافسة والهجوم. ومنذ بداية القرن العشرين تلقَّتِ الصوفية الهجومَ الأقوى والأكثر نجاحًا، سواء على يد إصلاحيِّين صعدوا إلى طبقةٍ اجتماعيةٍ أعلى، وكانوا قادمين مِن خلفيات غير تقليدية مثل تعليم المدارس الحكومية أو الصحافة، أو على يد أتباع التيار الحداثي الحاصِلين على تعليمٍ علمي، الذين رفضوا الصوفية لكونها رمزا للتقليدية المنحَطَّة التي أدت إلى وقوع المسلمين في قبضة الاستعمار. وعلى الرغم من أنه في نهاية القرن العشرين حافَظَ عدة ملايين من المسلمين على الروابط التي تربطُهم بالأولياء الأموات والشيوخ الأحياء للتقليد الصوفي، وسمحَتِ العولمة لرواد نشر التقليد الصوفي بالعثور على أتباعٍ جدد في أمريكا وأوروبا؛ فقد أصبحت الصوفية بالنسبة إلى المسلمين المتعلِّمين بصفة خاصة تمثِّل الفسادَ والخرافة والتخلُّف. ويؤكد جرين على أنه رغم توقعات الباحثين في منتصَف القرن العشرين باختفاء الصوفية سريعا في ظل موجة أشكالِ الإسلام الأكثر "حداثةً" هذه، فمن خلال سلسلة من التكيفات مع التقنيات والمجتمعات السكانية الجديدة في القرن العشرين، نجَتِ الصوفيةُ من هجوم مُنتقِدِيها، حتى وإن فقدَتْ عددا هائلا من أتباعها في هذه العملية. أما في بيئات العولمة في القرن الحادي والعشرين، فما يَربط كل الحركات الصوفية النشطة الآن في أوروبا وأمريكا الشمالية، بالإضافة إلى المناطق الإسلامية القديمة، هو استخدامُها الفعَّال للتقنيات الحديثة والأنماط التنظيمية الجديدة لنَشر رسالتها؛ ففي مدن المغرب، يقابِل الشيوخ الصوفيون مرِيدِيهم في أغلب الأحيان في أماكن أكثر شَبهًا بقاعات المؤتمرات، التي تُعقَد فيها ندواتُ عالَم الأعمال، منها بالتجمعات الطقسية التي كانت تُميِّز الفترات القديمة، في حين أصبح من الأرجح أن تجد تجمُّعاتِ طقوسِ الموسيقى والغناءِ الصوفيَّيْن في لوس أنجلوس وليس في شيراز. وفي بيئةٍ تتأثَّر بالعولمة على نحوٍ متزايد، تتضاءل جدوى فكرةِ التفريق بين صوفيةِ العالَم الغربي وصوفيةِ العالَم الإسلامي؛ فنظرًا لأن الطريقة الحقانية النقشبندية الخاصة بالشيخ ناظم القبرصي وحرَكة القائد الروحاني التركي فتح الله جولن، تَعملان بصفتهما مشاريعَ متجاوزة للقوميات في جوهرها، فإنه توجد دلائل كثيرة على أن الصوفية سوف تحتفظ بحصة معقولة في السوق الدينية العالمية. وإذا كانت حركاتُ الإصلاح الإسلامي المناهِضة للصوفية في القرن العشرين قد جعَلتْ وَرَثةَ التقليد الصوفي لا يُقدِّمون دائمًا أنفسَهم على نحوٍ رسميٍّ في الوقت الحاضر باعتبارهم صوفيين، فإن إعادةَ استيعابِ هذه الصوفية غير المُميَّزة في تصوُّرٍ أكبر للإسلام في العموم، تُمثِّل من جوانب كثيرة عودةً إلى الفكرة القديمة المُتمثِّلة في كونِ التقليد الصوفي جزءًا لا يتجزَّأ من دين الإسلام. ويضيف على الرغم من فترات توقُّف نقل التقليد التي تسبَّبت فيها الحداثة، وعلى الرغم من توجهات الدمج الرائجة في السوق الدينية العالمية، فمِن خلال التأكيد على مرجعية الشيوخ القدماء وتعاليمهم التي أورَثوها عبر العصور، يُعدُّ كثيرٌ من الصوفيين في العالَم في الوقت الحاضر الحَمَلةَ الحقيقيين لتقليدٍ تكوَّنَ من ذكرى وتراثِ الصوفيِّين الأوائل في بغداد. وفي حين يقدِّم بعضُ الصوفيين «الرياديين» أو «المندمِجين» نُسَخًا من التقليد مُبتكَرة أو مستولًى عليها على نحوٍ واضح للغاية، فإنهم ما زالوا يعتمدون على منطق التقليد ليَربطوا أنفسَهم بأقوالِ وممارَساتِ الشيوخ الصوفيين القدماء. وعلى الرغم من أنه يوجد بلا شكٍّ أكثرُ من شكلٍ متاح من الإسلام ليَختار من بينها المسلمون، وأن المؤسسة الصوفية القديمة لا توجد بين هذه الأشكال إلا في صورةٍ متضائلةٍ للغاية، فإنه بالنسبة إلى ملايين كثيرة من المسلمين ما زالت تعاليمُ الصوفية تُنِير الطريقَ إلى التناغُم مع الإله الذي خلقهم. وفي حين تغيَّرَتِ السياقات الاجتماعية للصوفية جذريًّا على مدار تاريخها الذي يَزيد قليلًا عن ألف سنة، فإن الصوفية كتقليدٍ ظلَّتْ متماسكةً عن طريقِ روابط النصوص والمصطلحات، والأنساب والشيوخ، والطقوس والعهود التي من خلالها تعهَّدَ الصوفيون الأحياء في كل جيل بالالتزام بالأخلاقيات والمُمارَسات والمُعتقَدات التي يحافظون عليها بوصفها المُعتقَد السري للنبي. ونظرًا لأن هذا الكتاب عملٌ تاريخيٌّ يعتمد فقط على الأدلة المكتوبة والآثار المعمارية، فقد افتقَرَ بلا شك إلى التطرُّق للتجربةِ الشخصية التي يعيشها الصوفيون، والنشوةِ التي يشعرون بها، اللتَين تُمثِّلان شُريانَ التقليد بالنسبة إليهم. إلا أنَّ الكلمات والأماكن التي تناولْناها هنا لم تكن مجرد الوسائل الثقافية التي ربطَت الصوفيين بالعالَم من حولهم؛ فقد كانت أيضًا أدوات التقليد التي سمحتْ لهم بتجاوُزه. وإذا كنا لم نستطع تتبُّعَهم في أفعال التسامي تلك، فهذا بسبب أننا قرأنا أعمالَهم بطريقةٍ مادية لا بطريقةٍ تأمُّلية، فعندما طالَعْنا النصوصَ العديدة المنتمية إلى فتراتٍ متعدِّدة، وقعنا في خطرِ عدمِ التطرُّق إلى الفعل الأول الذي انطلَقَ من خلاله الصوفيون في عملياتِ صعودهم وتَسامِيهم، وهو: تأمُّل حرف الباء في البسملة (بسم الله)، التي تمثِّل الكلمةَ الافتتاحية في القرآن، وإذا كانت النقطة الموجودة تحت حرف الباء هنا تمثِّل للصوفيين إشارةً تتجاوَز التاريخَ لتدلَّ على التفرُّد الكوني الذي تبدأ وتنتهي فيه كلُّ الأشياء، فإنَّ ما تناولناه في هذه الصفحات هو القصةُ المتعددةُ الأوجهِ والبشريةُ للغاية للصوفيين في العالَم.
مشاركة :